Culture Magazine Thursday  21/02/2013 G Issue 397
فضاءات
الخميس 11 ,ربيع الثاني 1434   العدد  397
 
النقد النسوي لدى سعاد المانع (4-4)
د. صالح زيّاد

 

إن تلك الوجوه القمينة بالتقدير في جهد الدكتورة سعاد المانع النقدي النسوي، ترافق أخرى تقبل الجدل والاعتراض وتبعث على الاختلاف معها.. وأبرز ما يمكن أن نبدأ بذكره هنا، هو إلحاح الدكتورة على تبرئة الثقافة العربية إلى نهاية القرن الثاني الهجري من صورة المرأة العورة، والإمعان في الاستدلال على الاحترام للمرأة وإعلاء مكانتها ومشاركتها اجتماعياً قبل أن يتطور المجتمع مدنياً وتدخل إليه مؤثرات أجنبية حطت من المرأة وأقصتها. واستدلال المانع هنا يجري في ثلاثة وجوه: أولها استقصاء شواهد التصوير للمرأة والدلالة على مكانتها، والثاني المقارنة بين فترتين تاريخيتين إحداهما قديمة تصل إلى نهاية القرن الثاني الهجري، والأخرى محدثة تلي ذلك، بقصد التدليل على الاختلاف بين صورة محترمة للمرأة غالباً في قديم الثقافة العربية وبداوتها ونقائها من المؤثرات الأجنبية وبين صورة أخرى تزري بالمرأة وتراها عورة في حاضرة الدولة العباسية. والثالث التأويل للشواهد أو الدحض والإنكار لثبوت نسبتها فيما لا يستجيب منها للصورة المقسومة على هاتين الفترتين.

أما في الوجه الأول فإن المرأة لا ترد في ملفوظ الشواهد التي تستقصيها المانع بدلالة تعلي جنسها في منظور الخطاب الثقافي، بل بدلالة الإعلاء للرجل وتأكيد سلطته وهيمنته الثقافية والمادية.. وسواء نظرنا إلى الشواهد التي تدلل على احترام المرأة بنسبة الرجل إلى اسمها الصريح فخراً أو مدحاً، أم إلى الشواهد التي تدلل بالتحاور مع البنت أو الزوجة، وبفخر الفارس بإرضاء شجاعته للنساء، وبالجدل مع العاذلات، فلا شيء من ذلك يقوم دليلاً على ما يساوي مكانتها بالرجل أو يقاربها. بل على العكس من ذلك فإن حضور المرأة في ملفوظ هذه الشواهد هو حيلة خطابية لتعزيز فوقية الرجل والشهادة لها بالمعنى الذي يضاعف من تدنِّي المرأة بوصفها جنساً. ولا يقدح في ذلك أن أفراد النساء المؤشَّر عليهن -أحياناً- بأعلامهن في الشواهد يردن فيها بما يفيد تفوقاً وعلو مكانة لهن؛ لأن تفوقهن وعلو مكانتهن هما بالقياس إلى غيرهن من النساء، لا بالقياس إلى (جنس الرجال).

ولا يخرج عن هذه الفحوى تلك الشواهد التي استقصتها المانع لأنها تذكر أسماء نساء كن يسهمن في الحروب كما ورد عن نساء الخوارج، ولا وفود نساء معروفات يَقْدمن على معاوية أو يستدعيهن هو، ولا نسبة خطب إلى نساء في أثناء المعارك بين علي ومعاوية.... إلخ.. فالمرأة في هذه الشواهد أداة للرجل وشهادة له؛ ولا أدري كيف نفهم من ذِكْر أسماء نساء الخوارج بدلالة إسهامهن في الحروب أي دلالة تقدمية على مكانة المرأة ووجودها الثقافي؟ فنسبتهن إلى فرقة ذات أدلوجة دينية سياسية، والتسبيب لذكرهن بإسهامهن في الحروب، هو دلالة على الفِرقة -أي الخوارج- في معرض التنافس بين الفِرق والمزايدة على تعمق عقيدتهم وشدة الإخلاص والفداء لها حتى لتشمل النساء. والأمر نفسه يمكن قوله في استدعاء معاوية لبعض النساء ووفودهن عليه فالدلالة الناطقة هنا سواء شهدت لمعاوية أو عليه تنطوي على توظيف سياسي يستخدم المرأة، ولا ينم عن استقلالها أو الدلالة على معانيها الأنثوية فما تزال تتعرف بالرجل ومنه وله!.

ولا تخلص الدلالة على المرأة في قصص العرب القديمة إلى ما يعكس الواقعة الثقافية في الزمن الذي تشير القصص إليه لصالح المرأة. فمصادر تلك القصص هي الكتب المؤلفة في القرن الثالث وما بعده (الكتب التي تحيل عليها الدكتورة القصص القديمة هي: الشعر والشعراء، والأغاني، والعقد الفريد، والأمالي، وذيل الأمالي والنوادر، وتاريخ الطبري، وبلاغات النساء، وقصص العرب) ولو تجاوزنا الشك في نسبتها القصص إلى العصر القديم الذي تشير شخصيات القصص إليه، أو إلى تداول القصّاص والرواة لها في المساجد والمجالس في القرنين الأول والثاني الهجريين، وهو الزمن الذي تستشهد المانع بها عليه وعلى زمن أحداثها في العصر الجاهلي، فإن تلك القصص شهادة -أيضاً- على ما بعد القرن الثاني، أعني زمن تأليف المصادر التي تتضمنها وتتداولها بدلالةٍ مثالية للمرأة، وهو الزمن الذي تنفي عنه المانع الصورة المحمولة فيها عن المرأة. لكن القصص -أيضاً- لا تختلف في دلالتها عن الشهادة لفوقية الرجل الذي لا تتعرف المرأة هنا إلا بالنسبة إليه (الحارث بن عوف، دريد بن الصمة، حاتم الطائي... إلخ)، ولئن دلَّت القصص بالمرأة على مُثُل عليا مثْل الوفاء والكرم والرغبة في السلام وعلى حكمة وبلاغة بيانية، سواء بتحلي المرأة بتلك المُثُل أم بحفزها الرجل على فعلها، فإنها لا تضيف جديداً، لأن الثقافة العربية تمجِّد تلك المُثُل وتألفها وتجري على الفخر بها والامتداح لها.

وما يلفت هنا أن قصصيّة تلك القصص تجعل وصف المرأة فيها بالمثالية الأخلاقية الممدوحة في عرف الثقافة العربية، استثناء وليس اعتياداً، وشذوذاً لا قاعدة. فلا تكون القصة قصة وهي تقص المألوف والمعتاد، إن مبرّر القص -فيما هو معروف في علم السرد- خَرْقُ الحدث المسرود للمتّصل الثقافي أو الطبيعي. وما يخرق المتَّصل في هذه القصص هو دور المرأة فيها الذي أضفى انزياحاً بصدور فعل نبيل أو حكيم أو حاذق... إلخ عن امرأة!. أما تفسير المانع لـ»وأد البنات» بخشية الفقر وليس بسبب العار، فقد نتساءل عن الحاجز بينهما، فالفقر يهدم الشرف قبل أن يقوِّض الجسد؟! ولكن الأكثر وضوحاً من ذلك أن نسأل عن سبب اختصاص الأنثى بالوأد والكراهية من العرب دون الذكر، في الآية الكريمة: «وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون» (سورة النحل: 58-59) فالآية هنا، شهادة على التمييز الذكوري ضد الأنثى، ولنسلِّم بعلّة الفقر لوأدها أو للكراهية تجاهها، ألا ينبئنا ذلك عن نظام اجتماعي يلغي فاعلية المرأة ودورها الإنتاجي ويرتِّبها على الذكر؟.

وقد بدا سياق الهزل عند الدكتورة المانع علةً لتخليص الموقف تجاه المرأة من التمييز ضدها، في بعض طرائف الجاحظ ومضامين مؤلفاته. ورأت أن الرجل يساوي المرأة عند الجاحظ في الصور الفكاهية أو الساخرة بحيث لا تغدو صورة المرأة هنا مميَّزة بالضد لجنسها.. ولست أرى الجد أصدق من الهزل في الكشف عن مكنونات الوعي الإنساني، والطُّرَف والنّكات إحدى حقول التعبير والدلالة التي رأت فيها مدرسة التحليل النفسي منذ فرويد مادة جادة لاكتشاف اللاوعي، بما يَعْقد وجوه شبه بينها -في هذا المعنى- وبين الأحلام والإبداع الخيالي، وفي كتاب فرويد (The Joke and Its Relation to the Unconscious) شرح وتحليل للعلاقة الوثيقة بين الفكاهة والحلم لأن كلاً منهما فيما يرى فرويد ينطوي على ضرب من الارتداد نحو الطفولة من أجل التملُّص من الحدود التي تفرضها علينا الحياة الجديَّة. أما اتخاذ مادة الهزل من الرجال، فلا يعني التساوي مع المرأة، في إنتاج تمييز جنسي ضدهم، لأن مدار دلالة التمييز ضد المرأة هو جنسها وليس أفراد جنسها كما هو حال الرجال، أو سياقات انتمائهم وصفاتهم التي تقصر الصورة التبخيسية في حقهم على الأعراب أو رجل كبير في السن أو منتن الرائحة... إلخ كما هي الشواهد.

وبالطبع فإن الجاحظ، فيما لاحظت المانع، يبدو متناقضاً بين إيراده ما يحقر المرأة وبين إنكاره تحقير النساء في قوله: «ونحن لا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكن رأينا ناساً يُزرون عليهن أشد الزراية ويحتقرونهن أشد الاحتقار...». لكن هذا التناقض لا يقتصر على الجاحظ، فكثيراً ما نجد التمييز ضد جنس المرأة مبرَّراً بالإحالة على الأعراف الاجتماعية والموروثات أو التأويل للدين أو الطبيعة أو الأساطير أو الجهل... إلخ في معنى طلب البراءة للفرد منه، أو الدلالة على مجاوزة السبب لطاقة الفرد أو العقل. والمهم هنا أن هذا التناقض لدى الجاحظ لا يمكن حلُّه بإحالة تحقير المرأة لديه إلى مرويات منقولة وهو بريء منها، ولا بسياق الهزل والفكاهة، ولا بقسمة الزمن إلى مرحلتين إحداهما بريئة من احتقار المرأة وهي قديمة والأخرى عكسها وهي حديثة وإليها يتجه إنكار الجاحظ. فصورة المرأة السلبية كصورة الرجل الإيجابية بنية لا واعية وغير عقلانية تنطوي عليها الثقافة وتتوجه إلى مخاطَبها المضمن فيها به بما يجعلها واقعاً لا صدقَ لغيره.. ولهذا فإن إنكار الجاحظ هو منطق نظر نقدي عقلاني، في حين تبدو مروياته المناقضة لذلك الإنكار، منطق الواقع العملي المحكوم بما يجاوز الوعي وما يتخطّى الراهنية.

وقد يطرأ السؤال هنا، عن سبب احتشاد الدكتورة المانع لتبرئة الثقافة العربية القديمة من التمييز ضد المرأة، وادعاء حدوث صورة المرأة العورة أو الشريرة أو المبتذلة بعد أن لم تكن بالإحالة على تطور المجتمع بعد القرن الثاني الهجري. خصوصاً حين لا نجد في الأسباب المعدودة جديداً بالكلية على العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري، فوجود أبناء إماء من ذوي المكانة بارز منذ القديم في الثقافة العربية وزياد ابن أبيه شاهد غير متأخر فيها، ووجود اليهود ومخالطتهم للعرب في المدينة أو في رحلاتهم إلى الشام واليمن حدثٌ أقدم من أن يؤشِّر عليه البحتري في اتهامه -في إحدى قصائده- المرأة بإخراج آدم من الجنة.. لماذا -إذن- احتشدت الدكتورة المانع لتمييز الثقافة العربية القديمة بمكانة معنوية عالية للمرأة؟

لقد اقترح الدكتور إبراهيم الشتوي (في بحث بعنوان «النسوية في الخطاب النقدي في المملكة العربية السعودية: دراسة في تجربة الدكتورة سعاد المانع» ضمن أبحاث الندوة الدولية قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية (الرياض: جامعة الملك سعود، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، 1431هـ- 2010م) إجابة على هذا السؤال، بالالتفات إلى العلة الجدلية التي تأتي من المخاطَب، أو المحكي له في خطاب الدكتورة المانع. فهي -فيما يقول- «تسعى إلى أن تعزل موقفها في الصراع من أن يكون ضد التراث لتحاول أن تستفيد من التراث في إدارة معركتها الاجتماعية المعاصرة، بالقول إن التراث لم يكن سيئاً وأن ما حل بالمرأة هو نتاج القرون المتأخرة المتخلِّفة، وليس نتاج القرون الأولى، حيث بكارة الإنسان العربي، وفطرته الدينية السليمة». ومعنى تأويل الشتوى هنا أن خطاب المانع يتضمن مخاطَباً أو متلقِّياً يقترف التمييز ضد المرأة وهو على علاقة وثيقة بالتراث احتجاجاً به وانتساباً إليه. فكأن بحث المانع عن براءة التراث من ذلك والتدليل عليها دعوى انتساب للتراث واحتجاج به بأكثر من انتساب متلقِّيها وأصح احتجاجاً. إنه هدمٌ لمنطق احتجاج مقابل ضمنياً فلا وجود ظاهراً لهذا المتلقِّي ولا صراحة لاحتجاجه.

لكنني أتصور أن هذه الإجابة تتضمن وصفاً سلفياً لمنطق احتجاج المانع للمرأة، والسلفية -دوماً- منطق اختيار من التراث وقراءة له، فما يختاره قارئ من التراث للاحتجاج لمعناه قد لا يختاره غيره. وبالقدر نفسه هي موقف متابعة للماضي وإحجام عن التجديد وكراهية للتطور الحضاري. وقد نعجب هنا، أن ما تحتج به المانع من العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري هو نفسه ما يتردد عن أجدادنا في العصر الحديث في أشعارهم وقصصهم وممارسات مجتمعاتهم قبل أن تغزوها المدنية الحديثة وتخضع لتنظيمات الدولة. فكثيراً ما يكنَّى الرجل بعزوته بالانتساب لأخته و»أخو نورة» هي عزوة الملك عبدالعزيز آل سعود، وقد تولت بعض النساء الحكم والإمارة مثل فاطمة السبهان (1860-؟) التي تحكي المصادر أنها حكمت حائل ثلاث سنوات بدءاً من 19 يناير 1911م حتى سلَّمت الحكم لحفيدها بعد بلوغه خمسة عشر عاماً.. (من المراجع عن ذلك مذكرات الباحثة البريطانية جيرترود بيل(Gertrude Bell 1868-1926) التي عملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق، وزارت منطقة حائل وتحدثت عن مشاهداتها فيها. (انظر، Gertrude Bell, From her Personal Papers, 1914-1926 (London: Ernest Benn ltd,1961)) ولن يعدم الباحث قصصاً وأشعاراً تشهد بأخلاقيات المرأة العربية العالية ومشاركتها الاجتماعية وعقلها وحكمتها. وأتصور أن الموقف النسوي بوصفه موقفاً ضد الأبوية والاستبداد الذكوري يجد في تعزيز المتابعة للماضي والاستشهاد على ما يرفع المظلومية عن المرأة بممارسات من التراث ما يضعفه لا ما يقوِّيه.

ولئن كان تفسير الدكتور الشتوي يضفي على أطروحة المانع النسوية تجاه الثقافة العربية القديمة طابعاً إيديولوجياً، ويحدُّها في غرض أقصر من طموح المعرفة ومن ممارسة سعاد المانع نفسها، فيما أوردنا شواهده أعلاه من الرغبة في التحرر من هيمنة أفكار وأغراض تفضي إلى القراءة المتعسِّفة والتعميم بلا استقراء كامل... إلخ فما زلت أرى في ممارستها هذه ما يؤكِّد رغبتها في مجاوزة الأفكار المهيمنة والمعمّمة، وهي ما يوصف بالإيديولوجيا، لأنها مضلّلة معرفياً. ومهما يكن من أمر فعلى الرغم من خضوع المرأة والتمييز ضدها في كل الثقافات ومنها الثقافة العربية القديمة، فإن مكانتها الاجتماعية في العصر الجاهلي غير مكانتها التي صنعها لها الإسلام، وسيغدو وجودها فيما تجلوه ثقافة العصر العباسي مختلفاً عن ذلك، بل لا نستطيع أن نقول إن التصور الثقافي تجاه المرأة في بغداد هو نفسه تجاه المرأة في الأندلس... إلخ. وهكذا كانت سعاد المانع حفية بفكرة التمايز والاختلاف هذه وباذلة وسعها في التدليل عليها، لكنها وقعت في ضيق الحدِّية الذي يقابل بين حقيقتين لا ثالث لهما، كالمقابلة بين الأبيض والأسود، وأعني هنا، منزلة المرأة العالية أو منزلتها المحتقرة.

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة