Culture Magazine Thursday  21/02/2013 G Issue 397
فضاءات
الخميس 11 ,ربيع الثاني 1434   العدد  397
 
قميصُ الإفتاء..
لمن سلطة التشريع إذاً..؟!
ياسر حجازي

 

(أ)

سطوةُ الفتوى على عقول المسلمين عرباً وعجماً في أوجها ضراوةً، فلا تمضي سنة لا يكثر فيها منسوب الإفتاء بين مختلفٍ ومألوفٍ، بين متهالكٍ وهالكٍ، بين مُقرّبٍ ومُنفّرٍ. ولعلّ (فتاوى إباحة الدم والتكفير الفردي والجماعي والردّة والإرهاب السياسي) الأعنف عاقبة في تهديد السلم الأهليّ، إذ إنّ مجرّد وجودها يُعدّ انشقاقاً وسلطة تنازع الدولة، وعلى عنقها وزر أولئك الذين انشقّوا عن دولهم تأثّراً بالفتاوى، وكالوا عليها تهمة الكفر؛ فلمن سلطة التشريع في الدولة إذاً!

أناقش -هنا- مسألة الإفتاء التشريعي-السياسي قبل نضوجه حديثاً، وبين بقائه منافساً وشريكاً؛ هل كان الإفتاء التشريعي للرعيل الأوّل إفتاءً دينيّاً، أيْ هل كان هناك تشريعان يتنافسان ويتعارضان؟ أمْ كان تشريعاً سياسياً-مدنيّاً بوصف المشرّعين الأوائل كانوا أمراء المؤمنين، وليسوا رجال دينٍ في موقع الولاية. وأيّ تقويم وقراءة لأعمال الولاية إنما تأخذ من الجوانب السياسيّة لمصلحة الكيان، (حتّى وإنْ كنّا نقرأ في أعمال الحجّاج ابن يوسف الثقفي)، فلا ينبغي الخلط بينها وبين التقوى، فلا ضير على تقواهم الفرديّة من أيّ ممارسات سياسيّة قد يختلف على تفسيرها وتأويلها في قراءة التاريخ الإسلامي الأوّل، فذاك مردّه الخلط بين الولاية السياسيّة والتقوى الخاصّة.

لذلك يكون من الضروري التفريق بين الإفتاء التشريعي والإفتاء الديني عند الرعيل الأوّل، وهو ما يبيّن أين وكيف وقع الخلط بين السياسة والدين؛ فبالعودة للمتون التاريخيّة نجد أنّ فتاوى الخلفاء هي نوع من أدوات الولاية في القوانين والأحكام تتشابه مضموناً بالتشريع مع فارق التطوّر الحضاري المدنيّ التراكمي، فما نُسب لهم من أحكامٍ هي تشريعات دنيويّة تراعي الظرفيّة، ولا يجب الخلط بينها وبين التقوى، بوصف الإفتاء التشريعي معادل للتشريع، وليس بوصفه مرتبطا بالإيمان العقدي للأفراد؛ أمّا الإفتاء الديني فكان في نطاق التعليم والفرديّة لأنّ مشاعية المعرفة لم تكن متوفّرة حينذاك، فكأنّه يعادل اليوم تعليم الدين واللغة في المدارس والجامعات، فكان بداهة أن يقوم المتفقّه في الدين بتعليم الناس/غير المتعلّمين بأمور دينهم، ولكن الإفتاء الديني حينذاك لا يرقى ولا ينبغي له أن يكون معارضاً وبديلاً عن الإفتاء التشريعيّ: وظيفة أهل الولاية. والفارق: أنّ (الإفتاء التشريعي) صادر من رأس الدولة وملزم للجماعات التي تحت إمرتها بالانتماء أو بالوجود ضمن سلطانها، بينما (الإفتاء الديني): صادر عن مُعلّم في الدين، فهو تعليم فردي طوعي، لا شأن له بالتشريع والسلطة.

لذلك فإنّ (الإفتاء التشريعيّ) يجب أن يكون محصوراً في الدولة ومجالسها التشريعيّة، وليس لأحدٍ غيرها أن يُصدر -نيابة عنها- تشريعات تعارضيّة أو حتّى توافقيّة، ثمّ يقسّم المواطنين، ويضع جماعة المؤمنين تحت تأثيرات إيمانيّة تتغلّب فيها التقوى -عادة- على المصلحة المدنيّة للدولة، وهو ما يخالف منهج السلف الصالح في تغليب مصلحة الكيان ومكوّناته. أمّا إن بقيَ (الإفتاء الديني) كوظيفة تعليميّة دينيّة بين الأفراد في شوؤن ممارساتهم الإيمانيّة دون الخلط بينه وبين الإفتاء التشريعيّ فإنّه لا يتورّط في أزمة تشريعيّة، ولا يُعدّ إشكاليّة انشقاقيّة بين تشريعيّن أو دولة داخل الدولة: (الدولة، ورجال دين)، هكذا لا يمكن الاعتراض على الإفتاء الديني فيما يخصّ معتقدات الإنسان، فالإنسان حرٌّ في معتقده، شرط أن لا تكون تلك الفتاوى مؤثّرة على أيّ شخص آخر غير طالب الفتوى.

(ب)

أزمة الإفتاء الديني اليوم أنّه خسرَ وظيفته التعليميّة بانتشار المدارس والجامعات وبتحوّلِ أفراد المسلمين من الأميّة الدينيّة والدنيويّة إلى متعلّمين ومثقّفين ممّا يُقادم وظيفة الإفتاء الديني التعليميّ، فما يبقى له إلاّ استغلال التماهي التاريخي بوظيفة الإفتاء التشريعي وهي مخصوصة بأهل الولاية، من هنا نفهم حرص رجال الدين على رفض أيّ فصل في الإفتاء على المستويين؛ وإشكالُ عدم الفصل أنّه يُنتج لَبساً بين التقوى وأهل الولاية عند قراءة أعمال الرعيل الأوّل، وهذا اللبسُ -الذي نرفضه- ما كان ليظهر إن لم يتعمّد رجال الدين الربط بين الوظيفتين دفاعاً عن مصالحهم الوظيفيّة عبر المراجع التاريخيّة لتبرير تحوّلهم من التعليم إلى التشريع، وعبر إخفاء حقيقة وجود مستويين ووظيفتين من الإفتاء: (التشريع، والتعليم) وشتّان بين الدورين. هكذا تنشأ أزمة الإفتاء الديني المعاصر أنّه عاجزٌ لطبيعة ارتباطه بالتقوى وبالأحادية وبالفرديّة، أن يقوم بإيجابيّة بالإفتاء التشريعيّ الذي من طبيعته تقديم مصلحة الكيان على التقوى، والتعدّديّة، والجماعات.

وفي هذا الخلط بين (الإفتاء الديني التعليمي الخاص برجال الدين، وبين الإفتاء التشريعي الخاص برجال السياسة) ومحاولة رجل الدين اليوم لتقمّص هذ ا القميص، فإنّه يضع نفسه فوق الدين والدولة معاً، (أ) بحيث إنّه يحصر تمثيل الدين مطلقاً في شخصه ورأيه، ويكفّر من لا يقول بقوله من جميع المؤمنين، (ب) وبحيث إنّه يمارس في فتواه تشريعاً فوق التشريع المدني، لتمكّنه من النفوس المؤمنة بإخضاعها لميزان التقوى الخاص. وهذا القفز على صلاحيّات الدولة، وتحريض المواطنين المؤمنين واحتكار الحقّ المدنيّ والديني أيضاً، هو ما تستند عليه الحركات الانشقاقيّة بتكفير الدولة وتشريعاتها وإرهاب المواطنين؛ أمّا (الدين) فلقد أصبح من مكرور الكلام والحجج أنّ كلّ من يقطعُ في رأيه ويُقصي آراء الآخرين فقد جاء بما يضيّق سعة الدين، ويحرّف غايته العظمى الداعية إلى تحرير الإنسان من عبادة الإنسان.

(ج)

أزعم أنّ نشوء الإفتاء التشريعي مرتبطٌ بالسياسة بمفهوم (فنّ الممكن، فنّ إيجاد الثغرات، فن الرخص)، وأنّ الخلط بين الإفتاء التشريعي والديني مرتبطٌ بطغيان الاستبداد، فالأوّل متّسعٌ غايته التيسير والتفتيق، فكلّ تنوّع وتعدّد تيسيرٌ، وشيءٌ من هذا في القول المنسوب للنبي العربي عليه السلام: (اختلاف أمّتي رحمة)، والآخر غايته التسيير والتضييق، لأنّ ميزان التقوى الخاص يميل إلى الثبات والأحاديّة، بينما واقع السياسة فنّ الممكن والتعدّد، والممكن يعمل في محتملات الواقع لزيادتها وتعدّد قدرات تحقيقها تقدّماً وتطوّراً، فلا يكون فنّ الممكن بالردّة إلى ما وراء الواقع بما في الردّة من تقليص لمحتملات الواقع بنموذج نهائيّ هو الماضي، والماضي وجهٌ من وجوه الموت لا يقدر على الحياة والتطوّر.

أمّا قولهم (سماحة المفتي) فإنّنا نقف عنده تفكيكاً، لأنّ شيئاً في (مسمّى السماحة) الممنوح للقائم بالإفتاء تستوجب أن يحمل خصائصها الثلاث: (أ) دلالة السمح الذي هو ضد المنع (ب) دلالة السلاسة التي هي ضد الصلابة، (ج) دلالة المرونة التي هي ضد التطرّف؛ وهذه الخصائص الثلاث لا يمكن أن تكتمل دون سعة معرفيّة واطلاعيّة متعدّدة والبحث عن مخارج عدّة تنفع الناس، لأنّ الفرد عادة ما يأتي سائلاً يُسرة السمح لا عُسرة المنع.

وشيءٌ في هذا جعل الإفتاء فنّاً وإبداعاً في أوج حضارة الإفتاء والانتفاع به، فنّاً في السمح والتشريع والتيسير وليس المنع والتعطيل والتسيير؛ لذلك فغاية الوظيفة الإفتائية على المستويين الفردي والجماعي: هي إيجادُ سعةٍ فيما هو ضيقٌ، وإيجادُ سمحٍ فيما هو منعٌ، وإيجادُ يُسرٍ فيما هو عُسرٌ، فيكون اتّساع المتون التشريعيّة الفقهيّة تيسيراً لشوؤن الأفراد المؤمنين والموافقين فرادى على جدوى الإفتاء الديني دون تعارض وإضرار بالتشريع المدني للدولة والجماعات التي فيها، وعوناً في مواجهة الظروف الزمانيّة والمكانيّة، وشتّان بين سماحة التيسير وفداحة التسيير:

• فكلُّ فتوةٍ دينيّة فرديّة فيها سماحةٌ وإباحةٌ لا يعقبها ضررٌ على أحدٍ، ولا تُعارض تشريعاً مدنيّاً فهي تَيْسِيْرٌ، وكلّ فتوةٍ فرديّة فيها منعٌ يتعارض مع تشريعٍ مدنيّ هي تَسْيِيْرٌ.

• الحريّةُ والاختيارُ في التَّيْسِيْرِ. والجبريّةُ والاستبدادُ في التَّسْيِيْرِ.

• التَّيْسِيْرُ يُفْضي إلى تعدّديّة، والتَّسْيِيْرُ مَحلُّهُ الأُحاديّة.

Yaser.hejazi@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة