Culture Magazine Saturday  21/09/2013 G Issue 412
قراءات
السبت 15 ,ذو القعدة 1434   العدد  412
 
سيرة مدينة
الرياض منذ ستين عاماً...
د. عبد الله بن محمد الشعلان
-

 

منذ ستين عاما كانت الرياض مدينة متواضعة بل أشبه بقرية صغيرة وادعة يقطنها سكان قليلون، وتحتضن أحياء تتألف من بيوت متراصة مبنية بالطين وقوالب اللبن ومسقوفة بخشب الأثل وجريد النخل، وكانت المسالك بين تلك الأحياء طرقامتربة وسككا ضيقة ودروبا متعرجة، وكانت شوارعها الرئيسية (مثل آل سويلم والظهيرة والثميري) تضاء من قبل البلدية عند حلول المساء بفوانيس مثبتة في الجدران، وقد تعود الناس إذ ذاك أن يأووا إلى مخادعهم بعد صلاة العشاء مباشرة أو بعدها بوقت قليل يسمح لهم بالعودة لبيوتهم بعد زيارات عائلية أو مسيارات اجتماعية قصيرة، وإلا فإن صفارات «العسس» ستنطلق لتشق هدأة الليل وتنبه الساري بأن عليه التواري والاختفاء حالا وعاجلا، فلا ترى من أحد يسير أو يتجول بعد ذلك حيث تقفل جميع الدراويز (مفردها دروازة) وهي بوابات كبيرة في السور العالي السميك الذي يحيط بالرياض ويحميها من جميع جهاتها (وأشهرها دروازة الثميري ودروازة دخنة) أو بوابات صغيرة في أسوار تفصل بين بعض أحيائها بحيث لا يسمح لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها بعد إقفالها ليلا. أما مركزالتسوق الرئيس في الرياض بل وقلبها النابض فهو الذي كان يعرف بـ «المقيبرة» حيث تحتوي على كافة احتياجات المتسوق ومتطلباته في مكان واحد.

وسيورد الكاتب فيما يلي بعضا مما تعيه ذاكرته بالإضافة إلى ما استقاه من أناس عايشوا تلك الفترة وعاصروا أحداثها من أوائل الأحداث والمعالم والأماكن والأشخاص في الرياض منذ أكثر من نصف قرن، على القارئ أن يشتم من ذلك شيئاً من عبق التاريخ ويستهلم من عبره، وأن يجد فيه وقفة للاستقراء والتبصر والتأمل لما كانت عليه وما صارت إليه هذه المدينة الفريدة وواسطة العقد في جيد مملكتنا الغالية إبان تلك الحقبة التي مرت واندثرت من ماضيها العريق حتى وقتنا الحاضر.

1) أول مركز علاجي: هو المسمى بـ «الصحية» (بتشديد الصاد والحاء والياء)، وكانت تلك الصحية تقع في مكان الإدارة العامة للأراضي التابعة (الآن) لأمانة مدينة الرياض والواقعة في حي الديرة على شارع الملك فيصل (شارع الوزير) وشارع البطحاء، وكان يعمل بها أطباء أحضرهم الملك عبد العزيز- رحمه الله- من البحرين.

2) أول وأشهر من مارس الطب والعلاج هو سلمان قراطة، وقد أتى من البحرين، وهو في الواقع لم يكن طبيبا أو صيدليا ولكنه تمرس في العمل وبخاصة في إعطاء الإبروالمراهم لندرة الأطباء وقلتهم في ذلك الوقت، وكان كثير السفر والتنقل بين الرياض والبحرين والهند لجلب العقاقير والأدوية والحقن.

3) أول صيدلية (شعبية): كانت دكانا صغيرا يقع جنوبي «المقيبرة»، وصاحبها أحد المواطنين من أهل الحجاز يدعى «البوصي»، حيث كان هذا الرجل يتاجر في الأعشاب ومساحيق من مواد متعددة تكون إما معدة سابقا أو يقوم هو بتحضيرها وإعدادها عند الطلب، وكان الناس يقصدونه لاستشارته في ما يشتكونه من أمراض وعلل فيصف لهم بعض الأعشاب الخاصة والمواد المخلوطة لديه، وكان لطيفا مع الناس بشوشا باسما منطلق الأسارير لذا ينجذبون إليه ويأنسون له ويثقون بخبرته ومشورته ورأيه.

4) أول الأطباء الذين مارسوا الطب في عيادات خاصة كانوا من مصر وهم: عبد الحميد الرخاوي وعبد السلام وهيبة وعبد العظيم البساطي، وكانت عياداتهم في شارع الشميسي القديم المسمى الآن بطريق الإمام تركي بن عبد الله.

5) أول صيدلية (طبية): كانت صيدلية «الوزان» وتقع شرق المقيبرة خلف قصر الحكم وقيصرية الصيارفة.

6) أول مقهي: هو «مقهى البلدية» ويقع في ميدان الصفاة، وكان يقدم الشاي فقط في أباريق صغيرة تحتوي على أربع بيالات (لذا كان يطلق عليها براد أربع اسود).

7) أول المخابزكانت مخبزين للتميس (إذ لا يعرف غير التميس في ذلك الوقت) أحدهما في جنوب المقيبرة والآخر في شرقيها، وكان يديرهما أناس بخاريون عرفوا ببراعتهم ومهارتهم في صنع التميس الذي ينسب إليهم (التميس البخاري) إذ كانوا آنذاك يستخدمون الحطب (السمر) بدلا من المستخدم الآن (الغاز) مما يزيد في جودة الإعداد (التقمير) وطيب المذاق.

8) أول مطعم (شعبي): هومطعم «أبو رشيد» ويقع في الجزء الشرقي من المقيبرة، وكان عبارة عن حجرة صغيرة مفروشة بالحصير،وقد دأب صاحبه (أبو رشيد) في إعداد وتقديم «المرقة»، وهي الوجبة الوحيدة لديه، وتحتوي على الطماطم والبصل والقرع، ثم يضيف إلى هذا الخليط شيئا من العظام لإكسابه طعما ونكهة!. أما الخبز فيجلبه من فرن التميس القريب منه.

9) أول مطبخ (للولائم): كان مطبخ «العجراء» جنوب شارع العطايف، ولم ينجح ذلك المطبخ في بداية الأمر لعزوف الناس عنه نظرا لعدم تعودهم على الطبخ خارج المنزل لاعتباره عملا غير مألوف بل ومنافيا للأعراف والتقاليد وانتقاصا من حق الضيوف وإكرامهم. بيد أن تلك الأنواع من المطابخ قدر لها أن تنتشر بعد ذلك انتشاراً واسعاً على نحو ما نراه اليوم بعد أن تبدل - بمرور الزمن - ما ران على طباع الناس من نظرات ومفاهيم تجاهها.

10) أول مطعم (للوجبات): كان «مطعم القباني» المتخصص في المأكولات اللبنانية الذي يقع في شمال شارع الملك فيصل (شارع الوزير)، وقد بهر الناس في ذلك الوقت بأنواع المأكولات التي كان يقدمها لزبائنه والتي لم تكن مألوفة ولا معروفة لديهم من قبل، بيد أنها كانت باهظة الثمن بمعايير ذلك الوقت وتواضع الأحوال المادية لمعظم الناس.

11) أول المشروبات الغازية التي عرفت في الرياض هي «الكوكاكولا» وكانت تأتي من مصانع الكعكي في جدة ولكن لم يقبل عليها الناس نظرا لغلاء سعرها، ثم أتت بعدها «البيبسي» وكانت هي الأخرى غالية الثمن إذ تساوي القارورة الواحدة ريالا حيث تجلب من جدة أيضا، وحينما افتتحت مصانع الجميح في الرياض لتصنيع وإنتاج البيبسي توفرت بشكل واسع وبسعر مغر جدا إذ أصبحت تباع خمس القوارير بريال واحد مما دفع كثيرا من الناس لتعاطيها بشكل إسرافي، كما أضحت تقدم للضيوف في جميع الأوقات والمناسبات حتى دخلت في بعض ألعاب عبثية وصبيانية أطلق عليها «طاش» (لخاصيتها الفوارة الطياشة) ومن ذلك أخذ اسم المسلسل المعروف «طاش ما طاش».

12) دأب الناس في ذلك الوقت إلى استخدام «القرب» (جمع قربة وهي من جلد الماعز) في تبريد مياه الشرب التي تجلب بمشقة بالغة من «بزابيز البلدية» المنتشرة في أحياء الرياض، ولكن ظهور الثلج سرعان ما أدى إلى زوال حقبة القرب واعتبره الناس نقلة حضارية باهرة ساعدتهم في تبريد أهم عنصرين لديهم: الماء واللبن.

13) من أشهر أسواق الرياض المعروفة آنذاك (وربما أن بعضا منها لا يزال موجودا إلى الآن) سوق القيصرية: لكبار تجار الرياض وأثريائهم، سوق الجفرة: للأرز والتمر (بالإضافة إلى اعتباره سوقا مالية للمداينات)، سوق البز: للمواد الغذائية (الشاي، السكر، الهيل، القهوة)، سوق الزل: لبيع قطع الزل (قطع السجاد ومفردها زولية)، سوق حلة القصمان: للملابس والأحذية، سوق حلة العبيد (الأحرار لاحقا): للآلات الموسيقية والشيش والجراك والمأكولات الشعبية.

14) المدارس غير النظامية (الكتاتيب): مفردها: كتاب (بضم الكاف وتشديد التاء)، ويطلق على صاحبها أوالمشرف عليها اسم «المطوع»، والتعليم فيها شبه مجاني، إلا أن المطوع تعود أن يتلقى أحيانا ما تجود به أريحية بعض أولياء الأمور من أعطيات متواضعة وغير منتظمة، وكانت تلك الكتاتيب تدار إما في حجر ملحقة بالمساجد أو في أماكن مخصصة لذلك، وتعنى تلك الكتاتيب في المقام الأول بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم إلى جانب تعليم مبادئ الكتابة. ولعل من أشهر روادها آنذاك بمدينة الرياض هم: ابن عبد السلام (الشميسي)، ابن نفيسة (المعيقلية)، ابن سينان (دخنة)، ابن جبرين (في جبرة)، السناري (الوسيطى)، ابن سنان (المعكال)، ابن سليمان (جنوبي المقيبرة). وكان أسلوبهم في التعليم والتقويم يقوم على الضرب، بل الجنوح نحو الضرب المبرح أحيانا وبرضا ومباركة من بعض أولياء الأمور!. أما مصطلح «الكتاب» فلم يكن مستخدما أو معروفا آنذاك، ويبدو أنه مصطلح مستحدث، إذ كانت تلك المدارس تعرف بأسماء أصحابها وتنسب إليها.

15) أول مدرسة أنشئت في الرياض كانت مدرسة ابتدائية سميت آنذاك بالمدرسة الأهلية والمسماة حاليا بـ «التذكارية»وقد تم تأسيسها عام 1367 هـ، ومكانها الآن يقع في التقاطع الشرقي الشمالي لشارع البطحاء وطريق المدينة المنورة.

16) أول خطاط (لوحات): كان السوري محمد بردي، وكان بارعا وموهوبا في الرسم والخط معا، بيد أنه لم يمكث طويلا في الرياض حيث جاء بعده خطاط سوري آخر يدعى «عبيد» نافسه من حيث القدرات والإمكانيات والأسعار، لذا لم يقدر لبردي أن يمكث في الرياض طويلا فغادرها بعد ذلك (أو توفي كما يقال والله أعلم). وبعد ذلك ظهر جيل جديد من الخطاطين السعوديين ومن روادهم الخطاط جاسين (اختصارا للجاسر والحسين) وكذلك الخطاط دهيران، ثم بعد ذلك تزايدت أعدادهم وتطورت تقنياتهم في أنواع الخطوط وأشكال اللوحات والأضواء البراقة.

17) أول مكتب بريد: كان عند مسجد العيد في الجهة الجنوبية منه، وكان يسمى بالبرقية لوجوده بجانب مركز إرسال البرقيات، وكانت الرسالة تأخذ أربعة أيام بين الرياض ومكة.

18) أول المكتبات (لبيع الكثب الثقافية) كانت «المكتبة السلفية» في قيصرية بن كليب، لصاحبها محمد عبد الرؤوف المليباري, وكان رجلا ودودا وسمحا وخلوقا ودينا، وكان يتيح كتبه لأي زبون يود الاطلاع عليها وقراءتها لديه حتى وإن لم تكن لديه نية أو رغبة لابتياع شيء منها.

19) أول مكتبة مفتوحة للاطلاع العام كانت المكتبة السعودية في دخنة التي أسسها سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ- غفر الله له-، وكان المطلعون وطلبة العلم يرتادونها نظرا لما تحتويه وتزخر به من أمهات الكتب الدينية والمراجع التراثية القيمة، وكان يعمل بها أناس اكتسبوا الخبرة والمراس في جلب الكتب لراغبيها من عناوينها فقط لمعرفتهم بأماكنها ومواضعها في رفوف المكتبة إذ لم يكن تصنيف ديوي العشري المطبق في المكتبات معروفا في ذلك الوقت.

20) أول عمالة وفدت للعمل في الرياض جاءت من حضرموت، ولذا كان يطلق عليهم «الحضارم»، وعلى الرغم من أن الغريب قد يلقى شيئاً من العنت والامتعاض والجفاء في غير موطنه إلا أنهم لقوا من أهل الرياض كل ود وحميمية واعتبار نظرا لما عرف عنهم (أي الحضارم) من الجدية في العمل والنزاهة والأمانة وحسن التعامل. ويكفي الحضارم فضلا وذكراً طيباً حينما قام الأوائل منهم بدور مشهود في نشر الدين الإسلامي في بقاع من شرق آسيا عن طريق تجارهم الذين يعتمدون في تجاراتهم وتعاملاتهم على الصدق في القول والأمانة في العمل.

وختاما لعل هذا الاستعراض الموجز قد أبان للقارئ الكريم»سيرة حياة»لمدينة نشأت وبدت متواضعة في بداياتها الأولى حتى أصبحت على ما هي عليه الآن مدينة باهرة تزخر بالسكان وتموج بالبشر وتتعالى فيها المباني الشاهقة وتتلألأ في أجوائها وأفيائها الأضواء الخالبة، كذلك يمكن استخلاص الدروس واستلهام العبر في طبيعة تلك الحياة التي واكبت مدينة الرياض في بنيويتها الأولى، وكيف أضحت على ما نشاهده اليوم فيها من معالم الحياة العصرية وانتشار التوسع المعماري ومظاهر التطور الحضاري.

وأخيرا أستميح القارئ الكريم عذراً إذا حدث نسيان أو إغفال أو خطأ لبعض المواقع أو الوقائع أو الأسماء وجل من لا يخطئ وتنزه وتعالى عن ذلك رب العالمين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة