Culture Magazine Thursday  23/05/2013 G Issue 407
فضاءات
الخميس 13 ,رجب 1434   العدد  407
 
الماء وصراع الدلالات.. في قصص جبير المليحان
علي الدميني

 

يكاد الماء أن يسيل في الكثير من قصص جبير، ابتداءً من احتلاله واجهة إحدى مجموعاته، واستطراداً بتسمية بعض قصصه، مثل «الوجه الذي من ماء»، و»الماء الماء.. الماء»، و»الماء»، وكذلك في وجوده كعنصر أساس في مواد تشكيل النص وإغناء دلالاته أو صراعها، في قصص أخرى، مثل «مشكلة بسيطة».

ولعل «دال» الماء، سواء في صيغته المباشرة، أو في تعالقاته بدوال مماثلة، كالمطر، والنهر، والسيل، والغيم، والبحر.. الخ الذي يحيل إلى مادة شديدة السيولة والرهافة والحيوية - بجانب مكونات عالم الطفولة - قد أغوى القاص بالتركيز عليهما، من أجل رسم لوحات شعرية قصصه، التي تبني جمالياتها الفنية على تشكيل الكتل والكيانات المتجاورة، ذات الأبعاد المادية والإيحيائية المتعددة والمتداخلة، للتعبير عن رهافة الوجدان الداخلي للسرد، من جهة أولى، فيما يأتي التركيز على تفتيق دلالات الماء و تعارضاته في النص، من الجهة الثانية، كما نشير إليه في الوقفتين التاليتين:

1- الوجه الذي من ماء

حين نتأمل غلاف المجموعة القصصية الصادرة تحت هذا العنوان، فإننا سنرى غياب الماء عن لوحة الغلاف التي رسمها القاص، كإحدى عتبات التعرف على عالم نصوص المجموعة، حيث لا نهر، ولا بحيرة، ولا غيوم، ولا مطر. فأين الماء في «الوجه الذي من ماء»؟؟

الإجابة على تساؤلنا لن تتأتّى لنا في العبور السريع على غلاف المجموعة، وإنما ستتشكل من قراءتنا وتأويلنا لمرموز الماء في قصص المجموعة، ولذلك سنقول: إن « وجه المرأة و قامتها» الأكثر ظهوراً من وجه الرجل الذي يختبئ خلفها، (في لوحة الغلاف) سيحيلنا إلى رمزين متعاضدين، يشير في مستواه الأول إلى البعد الإنساني الذي تتميز به المرأة (الحنو، الحب، الخصب، الولادة) بما يحيل إلى رمزية الماء.

كما أن هذه المرأة - الماء، في وقفتها الشامخة وهي تحتضن الجفاف (الصحاري والسهوب وعروق الجبال) وهي تسيل في اللوحة، من عنقها حتى صدرها الأيمن، فيما تحتضن - في موقع القلب - خضرة الحقول والنخيل والناس (أي الأمل)، وتحمل على الكتف الأخرى شالاً مرصّعاً بغابة من الزهور،يهيؤنا لأن نرى فيها رمزاً للوطن!!

و لعل هذا الجزء من القصة التي حملت عنوان المجموعة يضع قلوبنا على ما يموج في وجدان « ذلك الوجه»، حين يقول النص: « كان البحر والشاطئ والكفان..

غابة صغيرة وخيول ولعب. جبال ملوّنة و ماء. نخلة يلعب الأطفال تحت ظلها ويأكلون، ويغنون:الكفان، والوجه الوديع يدنو، ويحدق في البحر ويدنو، ويحدق في البحر، ويود لو كان : سمكة.. طائراً.. غيمة.»(ص 65).

«الوجه الذي من ماء» وجهٌ لا ينتمي لعذوبة الماء، وحسب، ولكنه يصبح ميداناً لصراع «ماء» آخر، يولد من سيولة الزمن، ومن صراع الأحلام والآلام الطفلية مع مكونات الحياة القاسية، حيث أن ذلك الوجه الذي تخلّق من حركة الطفل وأحلامه بقرب البحر، ما يلبث أن يصير شاباً يقترب من مرحلة لبس العقال والخروج من ثياب البراءة، ولكنه سرعان ما يواجه مصيره أمام عنف البحر، لأنه لم يكن يمتلك سوى أحلامه الصغيرة الهشة لأن يكون «سمكةً، أو طائراً، أو غيمة»!!

لذلك يمكننا القول بأننا، ومنذ لوحة الغلاف، سندلف إلى عالم رمزية الماء في قصص جبير، لتتجلى لنا في توظيفاتها المختلفة: رمزاً للمرأة أو للطفولة والأحلام والحياة البهيجة، أو رمزاً للعطش والانكسار، أو كدلالات أخرى، تظلُّ مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها النص التالي!

2- مشكلة بسيطة (ص10- مجموعة الوجه الذي من ماء)

«خلت المدينة من الماء: خرج الناس إلى الشوارع، عطشوا،كلهم...

جلس الرجال في الشوارع، يتصبّبون عرقاً

.....

بِرَك العرق تتجمع.. وتكبر.. بحيرات ترفدها دموع النساء التي تسيل من تحت الأبواب

...

تجمّع ماءٌ كثير، وأخذ الناس يشربون!!

تقول الآية الكريمة : « وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيّ»، وفي هذا المعنى الكريم يتشكّل النص، ولكن الماء الذي ينقطع عن المدينة سوف يأخذ على يدي القاص أبعاد تمظهراته الرمزية، حين نرى أن كارثة انقطاع الماء عن المدينة، لم تخلق حالة من سواسية المصير بين الرجل والمرأة، فظلت - حتى في أتون الكارثة - تبكي وتسيل دموعها من خلف الأبواب، وخارج دائرة المشاركة في المواجهة!

لذلك يبرز صراع الدلالات، في رمزية الماء - المعنى، ما بين الماء الصافي الذي تذرفه عيون النساء المحتجزات خلف الأبواب، وما بين ماء العرق «النتن» الذي يسيح من أجساد الرجال الكسالى، الجالسين على نواصي الشوارع، حين لا يحتجون على انقطاع الماء، و إنما يستمرون في إحكام إقفال بيوتهم، على الماء الذي تمطره عيون النساء من تحت الأبواب الموصدة، إلى برك عرقهم وبحيراته الطافية على سطح الإسفلت!!

ولعل الوقوف أمام هاتين العلامتين اللغويتين (الأطفال والماء)، وأمثالهما في قصص الكاتب، تعيننا على كشف مكامن إبداع شعرية القصة القصيرة، في معظم كتاباته، والتي تتولد من تكوين نفسي شديد الرهافة، ومن مكوّن ثقافي بلور رؤيته التأملية والنقدية، عبر محاضن القراءة الفاحصة، ليبصر - رغم المعيقات القاتلة - في اللغة وفي الأشياء وفي الإنسان، مكامن السيولة وممكنات التطور والاستجابة، للتعاطي مع المتغير التاريخي لحياة الإنسان، الباحث عن معنى لحياته وأفق لوجوده.

الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة