Saturday 23/11/2013 Issue 418 السبت 19 ,محرم 1435 العدد

صناعة الشيطنة (2)

عقل ضدّ عقله

(د)

يتّفق صانع الشيطنة: (السياسي، أو الديني أو غيرهما) على أهميّة منتجه في تصفية خصومه وتقديسه لذاته شخصانيّاً دون جدل أو مناظرات تخصّ الفكر ولا تخصّ حامله، وعلى أهمية أخرى في توليد الأسباب لتبرير عجز الفاعل السياسي عن إنجاز مشاريعه ووعوده، ومن هنا تتَّضح أهميّة صناعة الشيطنة على أنّها غاية بحدّ ذاتها، لأنّ من يملك وسائل تحقيق أهدافها يتحكّم بقاعدة عريضة من المتأثّرين والناقلين، ممّا يساعده أكثر في مواجهة خصومه بطرق أسرع فائدة له.

وحينما يطرح في أروقة صنّاع القرار السياسي: (الاستعداد للتعامل مع الشيطان) في مواجهة خصوم، شخوصاً لا نصوصاً، فذلك لأنّ القضاء على الشخص أيسر على الفاعل السياسي والفاعل الديني من القضاء على فكره إذا انتشر دون تدمير شخصه، ولذلك كان ابتداع (يُعرف الحقّ من الرجال) الفتوى الفاسدة والجاهزة لرفض الكلام، لا علّة فيه، بل علّة في صاحبه، وهو حجب لعقل المتلقّي عن عقله، وشتّان بين: (يُعرف الحقّ من الرجال) وبين (يعرف الرجال من الحق)، فالأولى من عبارات الشيطنة تقدّس شخوصا وتشيطن آخرين على الاقتضاء، والثانية تمثّل انتصاراً للحق والفكر بغضّ النظر عن حامله.

فإذا ما قدّم (المشيطن) حجّته للناس وكانت قابلة للمنطق والعقل وفيها من الصحّة ما يفوق ويغلب ما يدّعيه الفاعل السياسي والديني فإنّ الشيطنة تفسدها، لطالما تحشر في عقول التابعين: (أنّ الشيطان يقدّم لك الأكاذيب ويلعب بها ويخيّيلها لك على أنّها حقائق، وأنّه يستعين بالحق لأجل الباطل)؛ فكما أن هناك شياطين/رجال لا يمكن أن يصدر عنهم الحقّ ولا يتلفظون به، فإنّه في المقابل هناك رجال ثقات وعدول لا يقولون إلاّ الحق ولا يصدر عنهم إلاّ الحقّ، وإن كان باطلاً فلعقل التابعين ألف تبرير وتبرير؛ هكذا لا تقف الشيطنة عند شيطنة الخصم، بل وتقديس الذات.

(هـ)

(تمنطق تزندق): بهكذا فتوى يُقصي أبو حامد الغزالي كلّ (مقترفي) المنطق والفلسفة بحثاً ودراسةً من سعة الدين وتعايشه، ويخرجهم من الملّة في تكفيرٍ -يُعَدّ الأخطر في التاريخ الإسلاميّ- يطال كلّ من يستعمل عقله بطريقة واعية، فالمنطق كما الشكّ أصلٌ في طبيعة العقل وعمله، وتحويل هذا الإفتاء من تنظير رجل الدين إلى تطبيق صاحب السلطة يجعل العقل العربي الإسلامي عدوّاً للمنطق والفلسفة، وبالتالي عدوّاً لعقله أولاً، وثانياً يرمي الدين ومقاصده في غيابات الدروشة ومجاهيل ما وراء الطبيعة، وهو مقصد يعارض ما خرجت عليه الدعوة في غرّة تأسيسها لعقلانيّة متوافقة مع ظروف القرن السادس للميلاد وبذور عقلانيّة متطوّرة؛ وحينما تكون مرجعيّة العقل العربي المعاصرة قائمة على نشأة تراكمية تعتمد على معادة العقل والشك، فإنّه لا غرابة أن يرفض العربي -على أكثريّته- أيّ فكر وواقع يخالف ظلاميّات ما يحمله، ويخالف ما تفرضه عليه السلطتان السياسية والدينيّة من أفكار لا تناسب العقل ولا تناسب الحياة؛ ذلك أنّه عقلٌ ضدّ العقل.

من هنا تجده عقلاً خاملاً، يرفض البحث ويستسلم لكلّ ما يشلّ حركته وأسئلة، مأسوراً ومحشوراً في: (نظريات المؤامرة، العدو، زيف الحضارة الغربيّة، الآخر هو الجحيم، تفوّقه العرقي المزعوم، ...) وغيرها من النظريات المحبطة والعاجزة؛ وهذا التلبيسات والتوهمّات متداخلة مع أثر الشيطنة الذي دُرّب عقله عليه منذ نشأته، وتراكماتها التاريخيّة، بحيث إنّ العائلة نفسها تقوم بنقل شيطنة المنطق جيلاً بعد آخر.

ولأنّ الفكر الثقافي تنويريٌّ في أصله ومقصده (لمن أخذه على هذا المقصد والأصل) عبر تفكيك أثر أعمال الشيطنة السياسيّة والدينيّة، لذلك تعرّض حاملي هذا الفكر في محطّات عديدة من حياتهم إلى (شيطنتهم) لتحصين الناس من أفكارهم (الهدّامة كما يدّعي فاعل الشيطنة) وإلى تصفيتهم جسديّاً؛ فإن كان تكفير علي عبد الرازق وطه حسين مثلاً حتى لا تصل أفكارهم إلى عموم الناس في مسائل وهميّة الخلافة وعلمنة الدولة، ضرورة العلم والشك، قيمة الحاضر بالإنجاز والإنتاج عبر العمل والتقدّم، فإنّ هذه الأفكار تأتي اليوم عبر أسماء كثيرة لا تُحصى، لأن المعرفة والفكر الثقافي أصحبا مشاعاً وليس حكراً على طبقة معيّنة أو قلّة من المحظوظين في تلقّي العلم والثقافة.

إنّها حرب الأفكار المفتوحة إذاً، والواقع المتشابك دوليّاً، فلم تعد هذه الأفكار (مجهولة أو غربية) وإن لم تكن مقبولة، فإنّ مناقشتها تتمّ يومياً في محيط الناس وعلى مدار الساعة، وهي موجودة بقوّة لأنّها من أسباب تقدّم الغرب وتحويله من هامش إلى مركز، وهي موجودة لأنّها مادة لصراع عربيّ مع السلطتين السياسيّة والدينيّة كمساع لإحلالها بدلاً من أفكار أخرى مستوردة من التراث والتاريخ، وكلّما ازداد انفتاح العالم أمام الإنسان في التقاء الثقافات العديدة وجدنا بالمقابل أن صناعة الشيطنة تطور فاعليّتها ويتوسّع انتشارها، فإن كان حظر المعلومة سابقاً وحجب الخصوم وما يقولونه وسيلة لحماية السياسي والديني، فإنّ الحظر اليوم انكسر ولم يعد بمقدورك أن تحظر كتب الخصم، صحفه، إذاعته، قنواته، مواقعه، حياته، وكلّ ما يتعلّق به، وفي كل بيوت الناس. لذلك فإنّ حرب الشخوص وشيطنتهم تتسّع كي تضمّ تيّارات وجماعات ومن ينتسب لهم، وتغدو وظيفة حجب العقل وتحويله إلى (عنزة لو طارت) أنجع أثراً من الإقصاء الشخصاني بمفرده، وهي الوظيفة التي تشتدّ في الإعلام العربي بشكل طاغ مع كلّ أزمة تمرّ بها إحدى الدول العربيّة ويخشى على تبعاتها في الدول الأخرى.

(و)

بالعودة إلى أصول كلمة شيطان: (شيط، شطط، شطن، وأضيف عليها شوط)، وما تدلّ عليه: (الحرق، الغضب، البُعد، الخلط، التطرّف، الباطل)، وجميعها دلالة حملتها صناعة الشيطنة، وإن كانت دلالة (شوط )كما ذكرها ابن فارس في المقاييس، أنّها أصل: (يدلّ على مُضيٍّ دون تثبّت ولا في حقٍّ)، تمثّل عندي مرجعاً تاريخيّا في صناعة الشيطنة فهي دلالة حالّةٌ في الفكر والواقع، وأجهل لماذا غاب عن ابن فارس وغيره أن يرد كلمة شيطان إلى (شوط) برغم دلالتها الأقوى في تمثيل وظيفة الشيطان، وعلى الرغم من إشارته إلى أنّ «بعض الفقهاء كان يكره أن يقال طاف بالبيت أشواطاً، وكان يقول الشوط باطلٌ والطواف من الباقيات الصالحات»؛ يهمّني هنا أنّ هذه الدلالة تجعلني أردّ تاريخيّة الشيطنة إلى نشأة التأويليّة الثقافيّة الأولى: حيث إنّ النزاع على ملكيّة الأشياء كان عاملاً أساساً في نشوء تأويل الخصوصيّة، فنزع الملكيّات يحتاج إلى حججٍ يتميز بها أحد أطراف النزاع عن الآخر، ويكون ذلك عبر تأويل للشيء المتنازع عليه لإضفاء خصوصيّة تبرّر شرعية الملكية تحت سببٍ غير ظاهر في الشيء نفسه، وعبر إزاحة الخصم بشخصه وتدمير منطقه في اعتدائه على الخصوصيّة؛ فالتنازع على ملكيّة (شجرة) لا يحسم بالاستناد إلى الحجج التي يتساوى فيها الطرفان كفوائد الشجرة من الإثمار والفيء والخشب والورق واللحاء وغير ذلك، فتساوي الحجّة هنا وهناك لا يمنحها قوّة فضّ المنازعات، لذلك يأتي تأويل الخصوصيّة بمنح الشجرة تأويلاً يخصّ صاحبها وتميّزه عن الآخر، وعبر هذا التأويل يمكن حصد الأتباع وتحوير النزاع من نزاع ملكيّة إلى صراع قيم وثقافة: (تحت هذه الشجرة رفات الأجداد، هذه شجرة تربط القبيلة، وهكذا) من تلك التأويلات التي هي خارج الشيء المؤوّل وليست طبيعة فيه. وهنا أنت لا تستند إلى المنطق والعقل في نزع ملكيّة الشيء وإقصاء الآخر، إنّما بتأويلات شيطانيّة من خارج الأشياء؛ وهي الخصوصيّة التأويلية الأولى في المتن المقدّس والتي وقع فيها الإنسان في شرك ولبس الغواية. ولذلك كان الشيطان أو الشرير أو الروح الظلاميّة أو ظلم الظلام -ومن يقع في حكمهم- الشريكَ الموجود في جميع الأساطير والديانات، حتّى في عصر العلم والصناعة وإلى عصرنا الراهن...لطالما كانت الشيطنة الوسيلة الأكثر شيوعاً وقدرة على التأثير على الجموع وتحصينهم ضدّ (الشخص غير المرغوب فيه) دون حاجّة للدخول إلى عقولهم واحداً واحداً ومناشة أفكاره وسمومه كما ينسبها فاعل الشيطنة للمُشيطن، ولأنّها وسيلة مهمّة في إدارة صراعات الإنسان ضدّ الإنسان.

ياسر حجازي - جدّة