Culture Magazine Thursday  25/04/2013 G Issue 404
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الآخر 1434   العدد  404
 
الجنون في منطقة المفاهيم في الثقافة العربية «2»
د. أحمد بن علي آل مريع

 

- المستوى الأول من توصيفات الجنون:

نجد أنفسنا في هذا الجانب، أمام أكثر من توصيف رائج تطرحه المؤلفات أو الرموز الثقافيون، تختزل الرؤية المؤسسية للجنون، ويمكن أن نضعها في ثلاثة مستويات بينها اتصال.. وهذه المستويات الثلاثة يكمل بعضها بعضًا، ويفصح بعضها عمّا يلمح إليه الآخر، ويتأسس بعضها على بعض، مما يجعلها تبدو كأنها تقدم هذا الفهم الإبستمولوجي بطريقة المقدمات والنتائج:

المستوى الأول: العرض: يُوصف الجنون بأنه: «عارض يغمر العقل»، أو أنه: «الذي يغطِّي العقل». والمجنون هو «المغطَّى العقل».

في هذا المستوى يُتلقى الجنون بصفته: (عرضًا)، والعقل (أصلاً).. «والعرض هو: الذي يعرض ولا يصح بقاؤه...، يدل على ذلك قولهم: عرض لفلان عارض من مرض وصداعٍ؛ إذا قرب زواله ولم يُعتقد دوامه. ومنه قوله عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.. وقوله: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، فكل شيء قرب عدمه وزواله موصوف بذلك»، ولذلك قيل للدنيا: «عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر». ومن ثمَّ فإن التوصيف السابق للجنون يصدر عن وعي بالجنون، ويؤسس أيضًا لطائفة من المفاهيم، التي تنعكس على تلقيه؛ بل تكوّنه. هذه المفاهيم يمكن التنبيه عليها من خلال الوقفات التالية:

- العقل هو الأصل، وهو الأسبق.

- الجنون طارئ على الحياة، وعلى التجربة البشرية.

- كما أن التعبير بالعرض يحتوي على إشارات خفية تمرر وصف الجنون من خلال تصنيفه:

- بأنه «حائل بين النفس والعقل»؛ يمنع من التَّعقل، وليس مزيلاً للعقل بالكلية!

- العمل على إزالة هذا العارض ومداواته متوقعة؛ لأن العارِض «يقبل العلاج» أو الإزالة.

- وأنه غير مكتسب ولا مقصود إليه، بل جاء على نحوٍ مجهول! ومن حيث لا يُعلم ولا يُدرى من أين أتى، لذا تقول العرب: «أصابه سهم عرض، إذا جاءه من حيث لا يُدرى من رماه» قال يعقوب بن السكيت: في قول الشاعر: «عُلِّقتها عرضًا»، أي: كانت عَرَضاً من الأعراض اعترضَني من غير أن أطلبه. فالجنون إذن: طارئ؛ غير مكتسب، مانع من عمل العقل.

- وكون الجنون عرضًا لا أصلاً، وعارضًا لا دائمًا؛ يجعله مستبعدًا عن أن يكون خيارًا لما هو قائم، أو ما يراد له الاستمرار. لكنه في أحسن الحالات - يستدعي الاعتراف به على هذه الصفة في خانة النقص العارض؛ وعلاقته بالعقل تستدعي إلى الذهن علاقة أخرى وثيقة الصلة به في منظومتي القيم والمعارف، وهي: علاقة الباطل بالحق. فالجنون شيءٌ من جنس الباطل؛ لاشتراكه معه في صفة مركزية مهمة، تجعله غير مؤهل للقبول والاعتماد عليه، وهي سرعة الزوال، أو القابلية للزوال الوشيك بإزاء ما هو ثابت وباق ومحكم.

قال ابن فارس:»الباء والطاء واللام أصل واحد، وهو ذهاب الشيء، وقلة مكثه ولبثه، يقال: بطل الشيء يبطل بطلاً وبطولاً. وسُمي «الشيطان» الباطل لأنه لا حقيقة لأفعاله، وكل شيء منه فلا مرجوع له، ولا معول عليه».

وكل ما لا ثبات له من القول والفِعل عند الفحص عنه فهو باطل. ونقيضه الحق. والحقّ يستدعي العقل؛ لأنه من جنسه، كما استدعى الباطل الجنون لأنه من جنسه، فالحقّ: «يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل، ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج، وحسن التلفيق». وكل فعل أو قول صدر بحسب ما يجب، في الوقت الذي يجب، بالكيف الذي يجب، فهو حق...

- هذا الفهم يستدعي من المجتمع تجاه المصاب بالجنون المساعدة والمسامحة. ولكن في الوقت ذاته يتم تصنيف الجنون وما ينتج عنه ضمن دائرة الزائل = الباطل، ومن ثمّ فلا يلتفت إليه ولا يعتد به، أو بعبارة ابن فارس «لا مرجوع له، ولا معوّل عليه».

- العارض يشمل ما كان حقيقيًا أو حكميًّا (ثقافيًّا) بحيث يحول بين العقل وبين أداء وظائفه؛ فالمخمور، والغضبان، والغيران، والشهوان، والمدهوش، والخائف، والمضطرب، والعاشق، والمنشغل بشيء أو المتعلق به، المنخلع مما حوله، والخارج على سمت مجتمعه وما يألفونه، يصح فيه - من الموقع المؤسسي - أن يوصف بالجنون، لوقوع العرض الذي يغمر العقل ويغطيه، أو الحائل الذي يحول دونه، ولو لم يكن الموصوف به عليلاً على الحقيقة!

وفي المستوى الثاني يتحدد معنى «غمر العقل» أو «تغطيته»، وذلك من خلال سياق المخالفة لأفعال العقلاء.. (يتبع)

أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة