Saturday 28/12/2013 Issue 423 السبت 25 ,صفر 1435 العدد
28/12/2013

ليست الطرق كلها تؤدي إلى «روما» (1)

تلقيتُ دعوة كريمة من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس للمشاركة في ندوة (ألف ليلة وليلة: مصادرها المخطوطة، وتنويعاتها السردية، واشتغالاتها الثقافية) التي تنظمها الوكالة الوطنية للبحث التابعة للمعهد في العاصمة الإيطالية روما، في الثاني عشر والثالث عشر من هذا الشهر (ديسمبر) من العام الحالي 2013م، ومنذ أن عقدتُ العزم على تلبية هذه الدعوة وأنا أستعدُّ نفسياً وذهنياً لقضاء أوقات ماتعة في هذه الدولة التي تطأها قدماي لأول مرة، ولا أعرف عنها الشيء الكثير سوى أن شعبها يشتهرون بالجلافة، ويتقنون صنع البيتزا والمعكرونة، أما عدا ذلك فليس في ذهني سوى شكل البلاد على الخارطة الذي يشبه القدم، وهنا يحضرني أمر أخير أعرفه عن إيطاليا، وهو مهارة لاعبيها في كرة القدم، فكثيرٌ من أساطير هذه اللعبة الشهيرة ينتمون إلى هذه الدولة؛ لذا كانت زيارتها والتعرُّف على معالمها وثقافة شعبها فرصةً لم أشأ تفويتها، ودافعاً ثانياً لشدِّ الرحال إليها.

اخترتُ مدينةً سياحيةً صغيرةً لتكون المحطة الأولى لإقامتي، تُدعى (ديسنسانو ديل جاردا) تقع في أقصى الشمال؛ ولذا كانت الرحلة متوجهة إلى مطار (ميلان) الذي حطت به طائرتنا صباحاً، حيث الأجواء في غاية البرودة وتصل إلى 4 درجات تحت الصفر، وفور أن وطئت قدماي الأراضي الإيطالية شعرتُ في البداية بشيء من الخوف؛ حيث كنتُ أعلم أنَّ عدداً من المصاعب ستواجهني أثناء إقامتي في هذه البلاد، ولا شكَّ أنَّ إشكالية اللغة وطريقة التواصل تمثِّل أولاها وأكثرها صعوبةً وتعقيداً، ثم تأتي إشكالية جهلي بأنظمة البلاد وقوانينها التي ربما تخفى على مثلي ممن هم قليلو الخبرة ونادرو الزيارة للدول الأوروبية.

أمَّا الصعوبة الثالثة فهي تجربةُ استئجار السيارة، حيث قرَّرتُ هذه المرة أن أستأجر بدلاً من التنقُّل بالمواصلات العامة؛ وذلك لسببين؛ الأول: أنَّ وسائل النقل في إيطاليا تختلف عنها في بريطانيا التي زرتها أكثر من مرَّة في وقتٍ سابق، حيث يجد السائح في الثانية خيارات أكثر وأسهل وأوضح للتنقُّل بين المدن الإنجليزية وبين أنحاء المدينة الواحدة، فهناك القطارات بنوعيها: الفوقية والتحتية، وهناك الباصات التي تعمل بشكلٍ دائمٍ وسريع، أما في إيطاليا فقد كانت الأمور أضعف من ذلك بكثير، ولعل زحمة السيارات وكثرتها وانعدام المواقف بشكلٍ ملحوظ مما يؤكد من ذلك، أما السبب الثاني الذي يجعل استئجار السيارة خياراً أفضل فهو أنَّ الخطة المرسومة لقضاء الأيام هناك تقضي بالتنقُّل بين أكثر من مدينة، وإذا كان الوقت الذي يقضيه الزائر في الطريق من مدينةٍ إلى أخرى ساعةً تقريباً بسيارته الخاصة فإنَّ هذا الوقت يمتد إلى خمس ساعات وربما أكثر إذا اختار الانتقال بوسائل النقل العامة؛ لذا كان استئجار السيارة هو الخيار المفضل لدي، واكتشفتُ في النهاية أنه كان صائباً، رغم كثرة الصعوبات التي واجهتها في هذا الخيار مما سأشير إليه لاحقاً.

لم يكن مطار ميلان مزدحماً؛ ربما لأنه ليس المطار الرئيس للدولة أولاً، ثم إنَّ الموسم لم يكن موسم سياحة؛ لذا كان المرور من نقاط التفتيش والجوازات في غاية السهولة والسرعة، كانت المهمة الأولى هي العثور على محل التأجير الذي استأجرتُ منه السيارة في الرياض بواسطة الموقع الإلكتروني، وحين عثرتُ عليه كانت الموظفة تجيد الإنجليزية، وهو ما جعل التواصل معها سهلاً نوعاً ما، ولأنها كانت تجربةً أولى حرصتُ على محاولة فهم بنود العقد التي يضعونها، كانت أغلبها عادية، إلا أنَّ ما لفت نظري من بينها أنك حين تعيد السيارة يجب أن يكون خزان الوقود ممتلئاً كما كانت قبل الاستلام، كما كانت تنصحني بشكلٍ غريبٍ على أن أدفع تأميناً في حال وقع حادث، وكأنها تشير إلى الفوضى المرورية وطريقة قيادة الإيطاليين المتهورة للسيارات، وهو ما لاحظته بعد ذلك.

استلمنا السيارة وخرجنا من المطار، كان (قوقل) مرشدنا السياحي الذي أثبت وفاءه في رحلات سابقة، كان دقيقاً إلى حدٍّ عجيب، كانت الخدمات التي يقدِّمها من خلال خرائطه المرئية وأصواته المسموعة هبةً من السماء، فلولا الله ثم هذه الخدمات لم أجرؤ على خوض هذه المغامرة، غير أنَّ (قوقل) لن يعمل إلا من خلال شريحة بيانات كان ينبغي علينا الحصول عليها ليبدأ التنقُّل باطمئنان؛ لذا كانت الصعوبة الأولى هي الوصول إلى مدينة (ميلان) لشراء هذه الشريحة، لم يكن لدينا أدنى فكرة عن الوجهة، توقفنا عند أحد الفنادق القريبة وحصلنا على خريطة ورقية ساعدتنا بعض الشيء، إضافة إلى لوحات الطريق.

وحين وصلنا (ميلان) واجهتنا صعوبةٌ أخرى عن كيفية التواصل مع السكان لمعرفة مكانٍ يمكن الحصول من خلاله على مبتغانا، وحيث لم يكن أحدٌ يتحدَّث حرفاً واحداً من الإنجليزية ممن واجهناهم اعتمدنا على لغة الإشارة، وحين وصلنا أحد المحلات حاولنا إفهام البائع ما نريد، لكنه كان كأصحابه السابقين لا يفقه شيئاً من الإنجليزية، في تلك اللحظات تناهى إلى سمعي أول حروف عربية خرجت من بين شفتي امرأة كانت مساعدة للبائع، كانت (مرحباً بكم) بمثابة أول التسهيلات التي دعوت الله أن يهبها لنا في هذه الرحلة، كانت المرأة من الجنسية اللبنانية، وتتحدَّث اللغات الإيطالية والهولندية والفرنسية، إضافة إلى العربية والإنجليزية، وحينها تمكنا من التفاهم بسهولة وحصلنا على مبتغانا، وفي مثل هذه المواقف يدرك المتأمل أهمية اللغة بوصفها تواصلاً بشرياً وتعاملاً إنسانياً بين الأفراد والمجتمعات، كما يدرك أيضاً أهمية تعلُّم اللغات الأجنبية بوصفها الوسيلة الوحيدة التي تضمن سهولة التعامل وسرعة التفاهم بين الأشخاص.

كانت (ديسنسانو ديل جاردا) مدينة هادئة، بل أشبه بقريةٍ ريفيةٍ صغيرةٍ بعيدةٍ عن ضجيج المدينة، كان واضحاً على أغلب سكانها التقدم في السن، لم تكن من تلك المدن التي تحتضن مهرجانات أو تتزاحم فيها الأسواق، كانت هادئةً إلى حد كبير، كان الاسترخاء فيها مثالياً، خاصَّةً وهي تطلُّ على بحيرةٍ كبيرةٍ يتقاطر شاطئها نظافةً وأناقة، كان الجلوس على ذلك الشاطئ في صباحاتٍ باكرةٍ وأجواءٍ باردةٍ كفيلاً بمحو كلِّ تعبٍ ومعاناة يواجهها السائح في السفر، أمَّا تناول الإفطار في ذلك المكان البديع برفقة تلك الجبال التي تقف شامخةً على مرمى البصر من الجهة المقابلة فله مذاقٌ استثنائيٌّ آخر.

- الرياض omar1401@gmail.com