Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
اسطنبول
سيمون نصار

 

( 1 )

ليست اسطنبول التي قرأنا عنها في كتب التاريخ يوم كنا صغاراً في المرحلة الإعدادية. تلك المدينة التي تجولتُ فيها وأكتب منها الآن. في اسطنبول تلك، كان السلاطين يصولون ويجولون في الكتب كما كنت أتخيلهم كلما دخلت مسجداً وزرت قصراً من قصورهم. العثمانيون الذين سيرتهم أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة. كانوا الى جانب كونهم أبناء أسطورة، أصحاب نظرية استعمارية توسعية، أيام ما كان الاستعمار يخاض بالحروب والدم وتزهق أرواح كثيرة وبلا عدد من أجل تنفيذ خططه. لكنهم حكموا وحوكموا. حكموا بالحديد والنار والرجال الأشداء الذين كانوا يربحون حروبهم. وحوكموا بالديبلوماسية الناعمة السلسة التي نحتهم عن الحكم وجعلت أحفادهم يتشردون في المنافي قبل أن يعود آخرهم (العثماني الأخير) أرطغرل عثمان الى تركيا ويموت فيها دون أن ينجب. إذ بموته تكون سلالة العثمانيين قد انتهت إلى غير رجعة.

لم يولد أرطغرل عثمان بالمنفى. ولد في قصر يلدز الشهير ودرس في فيينا وبينما هو هناك يحضر من أجل استلام السلطنة حين يأتي الدور كأي أمير من الأمراء. لكن السلطنة قتلت وتفرق العثامنة في أصقاع الأرض. واختار المنفى الأمريكي حيث عاش كعثماني عنيد، رفض طوال ستين عاماً الحصول على الجنسية التركية بحجة أنه مواطن عثماني مواطن في دولة غير موجودة. هذه أسطورة تحاك حولها الكتب والروايات. كيف يمكن لشخص، في هذا العالم، العيش طوال حياته كمواطن لدولة غير موجودة بالقانون. لكنه عاد الى اسطنبول، شاهد بأم العين الباب العالي وهو قد تحول من قصر لأجداده الى متحف للفرجة. تنزه في مساجدهم التي تحولت بالإضافة الى كونها بيوت لله إلى مزارات سياحية يتفرج من خلالها العالم على إنجازات أناسٌ مغرمون بالبذخ والسلطة. عاد وبقي ومات لكنه رفض الجنسية التركية. أما اللافت في سيرة موته فهو أن من نعاه في تركيا كان وزارة الثقافة لا أي طرف آخر. حول أتاتورك العثمانيين من حكام وسلاطين وأمراء الى رمز ثقافي حتى حين يموتون لا تنعيهم الدولة ولا يحضر جنازاتهم الأمراء والملوك بل يكتب ورقة نعيهم موظف في وزارة الثقافة. كأن يقول مات اليوم أحد الصروح الثقافية لتركيا المغفور له أرطغرل عثمان عثمان أوغلو. الموظف نفسه يمكنه أن ينعي موت جدار من جدران قصورهم أو حتى تدبيج رسالة إلى السلطان الجديد في تركيا الجديدة يقول فيها. أن أحد جدران آيا صوفيا معرض للتلف ما يهدد المبنى برمته ولذلك نرجو منحنا الإمكانات اللازمة لترميمه من أجل الإبقاء عليه. الجدران يمكن للبشر أن يحموها من التلف لكن أمر الله لا يمكن لأحد أن يتدخل به.

مات العثماني الأخير وبموته مات العثمانيون جميعاً فقد نسلهم من الوجود، لكن آثارهم باقية وهي موجودة في كل شارع في مدينتهم الجميلة التي تطل على مرمرة ويشقها البوسفور إلى شطرين بين قارتين لا تفصل بينهما مسافة كبيرة لكنها كبيرة في النفوس وفي الواقع على حد سواء.

لا يمكن لأحد التكهن بما دار في رأس العثماني الأخير لحظة عودته الى اسطنبول. خرج منها طفلاً وهو يملكها ودخلها والشيب يأكل رأسه ولا يملك سوى قدميه، لم يترك الرجل سيرة ذاتية. لم يترك سطراً واحداً ليقول لنا ماذا أحس حين شاهد مدينة أخرى غير تلك التي عرفها يوم كان يلعب في حدائق القصور. الإشارة الوحيدة التي تدلنا على ما دار في رأسه طوال حياته أنه رفض الاستسلام للواقع. بقي عثمانياً حتى الموت بحسب الكتب التي تذكر سلالتهم، كان العثمانيون ينجبون بكثرة لكنهم لم يعرفوا أن آخر سلالتهم لن ينجب. لربما، ماتت السلطنة قبل أوانها بقرن واحد. إذ كان الممكن لو بقيت معه أن تموت بموته. من أين نأتي بعثماني آخر. لا أحد يدري.

( 2)

تركيا ليست بلداً متسامحاً قبل نهايتهم بقليل، ارتكب السلاطين ما عرف بمجازر الأرمن. شيء يشبه قليلاً ما يقوم به بشار الأسد حالياً. لكنه بمقاييس ذلك الزمن كان حدثاً مهولاً. قتل وشرد من الأرمن، سكان كيليكيا، ما يزيد على المليون شخص بين رجل وامرأة وطفل ومسن. في كتابه المرجعي (القصارى في نكبات النصارى – 1919) يذكر الأب اليسوعي الحلبي إسحاق أرملة يوميات تلك المجزرة منذ العام 1915 - 1919 من خلال شهود العيان الذين كانوا يصلون الى حلب ويروون رحلة الموت والتشرد بكافة مشاهدها الدرامية. نشاهد الأمر نفسه اليوم مع الذين يهربون من جحيم آل الأسد. أو الأسد الأخير كما نتمنى أن تكون الخاتمة.

ذهب العثمانيون الى غير رجعة، لكن تركيا التي ضمتهم الى إرثها الثقافي نفت عنهم، لكيلا تحمل المسؤولية إثم ارتكاب المجازر. ربما في الأمر ما هو منطقي. العثمانيون انتهوا وتركيا الجديدة ليست مسؤولة عن كل تلك الدماء التي سفكت. كيف يمكن أن نحمل دولة حديثة هذا الحمل من الدماء التي لم ترتكبها هي، لكن الاعتراف أخلاقي بالدرجة الأولى. ربما تتهيب هذه الدولة الحق القانوني الذي يقف وراء مثل هذا الاعتراف. وربما فعلياً الدولة محقة في عدم الاعترام بجريمة لم ترتكبها هي. بل من سبقها ليس في الدولة بل في السلطنة والسلطنة ماتت وبموتها ودفنها دفنت ذنوبها جميعاً. لا يحاسب الأحياء الأموات. هذا ليس من اختصاصهم ولا من قدرتهم ولا حتى من من المنطق في شيء، لكن يبقى الاعتراف بتحديد المسؤولية عن ذلك الجرم حتى لو كان جرماً بشعاً كأي جرم آخر.

تركيا ليست بلداً متسامحاً. وهي لم تعترف بشيء ولا تقبل لأحد أن يتحدث في هذا الشأن حتى أكثر مواطنيها شهرة تنبذه إن ذكر شيئاً من هذا. الحس القومي الذي نماهُ مصطفى كمال طوال قرن تقريباً يجعل من الشعب قوة ضاغطة ضد الاعتراف، حتى لو كان أخلاقياً. في العام 1915 ذكرت جريدة النيويورك تايمز في عدد 15 ديسمبر أن أكثر من مليون ضحية في تركيا سقطوا نتيجة حملات التطهير العرقي التي أمر بها السلطان عبد الحميد. أورهان باموق (نوبل 2006) قال في العام 2003 لصحيفة سويسرية أن « أكثر من مليون أرمني وثلاثون ألف كردي قتلوا علي هذه الأرض ولا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك) حوكم قضائياً بتهمة إهانة الهوية التركية. وفي العام 2006 أوقفت الملاحقة القضائية بحقه وفي العام الذي تلاه سحب أرصدته وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

غيره كثرمن المثقفين وأصحاب الرأي قتلوا اغتيالاً لأسباب تتعلق بهذا الأمر. لا أحد يعرف من قتلهم ومن هددهم. يقولون، هنا أن أحزاباً تركية متطرفة يأكل التعصب في أدمغتها وراء هذا. لكن لا أحد يعرف من هم. غير أن الجريمة لا تعالج بجرائم مماثلة. ومصير الجريمة الأولى الاعتراف حتى بموت آخر المجرمين.

( 3)

في شارع الاستقلال أو ما يعرف بشارع تكسيم. مكتبات عديدة. كما أن هناك الكثير من صالات عرض الفنون التشكيلية بكافة أنواعها بحثت في المكتبات عن كتب باموق. كان أحد أهداف الزيارة العثور على كتبه بالتركية التي لا أجيد قراءتها. كنت أريد الاحتفاظ بنسخة من كتابه – سيرته الذاتية (اسطنبول) بالنسخة الأصلية. اللغة التي تكتب فيها الكتب غير تلك التي تترجم إليها. كان يكفيني أن أشم الكتب بين حين وآخر لأدخل في سيرة كاتبه. لكني بحثت ولم أجده.

مع ابنتي كرمل (15 شهراً) تجولت في مكتبات عديدة، صعدت أدراجاً ووقفت قبالة الرفوف لساعات ولم أجد أورهان باموق. ليس فقط روايته التي أبحث عنها. بل لم أجد له أي كتاب يدل على وجوده هنا.

كيف يمكن لمدينة ألا تحتفي على الدوام، بأحد أبنائها الذين وضعوا اسمها على خارطة الأدب. نوبل التي حصدها باموق ليست له وحده. هي لأسطنبول أيضاً. ما كتبه ما كان يمكن أن يكتبه لو ولد في مدينة ثانية. لو وجد في مكان آخر. الجائزة ذهبت له ولها بالتساوي، ولهذا ربما حين قرر أن يكتب سيرته أسماها علي اسم مدينته.

فقط شخص واحد أسر لي بعدم قدرتي على العثور على كتب باموق،كان ماسح أحذية كردي من ديار بكر جاء الى هنا للحاق بحلمه الذهاب إلى أوروبا، لكنه علق بين أرجل المارة والروايات التي يداوم على قراءتها كلما تأمن لديه ثمن واحدة.

simnassar@gmail.com باريس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة