Culture Magazine Thursday  31/01/2013 G Issue 394
فضاءات
الخميس 19 ,ربيع الاول 1434   العدد  394
 
رؤية
مرحلة الرجعة وآفاقها التأويلية
فالح العجمي

 

على الرغم من تعدد معاني مصطلح «الرجعة» إلا أن ما نعنيه هنا هو رجعة الفكر أو عودته للوجود نفسه، مما تفانى في الدعوة إليه هايديجر في منتصف القرن الماضي، وسعى إليه بعض المصلحين في العقدين الأخيرين. فالتحول إلى «الرجعة» لم يعد يتعلق بالإنسان، حيث كان في الفلسفات الذاتية العقلانية والإرادية منذ ديكارت وحتى نيتشه والفلسفة الوجودية المعاصرة (بدءاً من سارتر ومن بعده)، بل أصبح كل شيء يتعلق بالوجود. فمهمة الفكر هي الاستجابة للقدر الممتنع الذي لا ينفك مع ذلك حاضراً على الدوام، وتهيئة نفسه بالاستعداد المستمر للحدوث الممكن لذلك القدر، وكأن هذا الفكر المؤقت – كما يسميه هايديجر – يمثل معالم الظل الذي يلقيه الحضور أو الحدث الممكن في المستقبل لذلك القدر. بأي معنى إذاً يكون هذا الفكر حاضراً ومستقبلاً؟ بمعنى التفكير المتواصل في العالم العلمي والتقني وأصوله الميتافيزيقية الأولى، وبمعنى الاستعداد والإعداد الفكري للقدر في حدوثه الممكن. وعندما تتم هذه الرجعة للأصل والأساس الأول، ويتم التهيؤ والتنبه والاستعداد والإعداد، فربما يحدث شيء حاسم يغير الفكر نفسه، ويعيد العالم العلمي والتقني إلى أساسه المنسي.

فقد آمن هايديجر بضرورة الرجوع إلى التفكير في قدر الوجود نفسه، وسط عالم يتزايد اغترابه على الدوام؛ وذلك لكي يجد الإنسان الإمكان الوحيد للتحرر من أسر العلم وتقنيته، ويهتدي للإنقاذ الذي سيأتي من داخلهما، عندما يتم رجوعهما إلى أصلهما وأساسهما الذي طال نسيانه والتخلي عنه والتنكر له. ومن خلال هذه الآفاق التأويلية الرحبة استطاع هايديجر أثناء سنوات الحرب أن يفهم ما يعنيه العلم والتقنية واستهلاك العالم وأشكال القيادة والتنظيم والإدارة «العجلة العدمية» في الصناعة والحرب، والعالم الذي تم وضعه والهيمنة عليه. ثم أمكنه أن يتوسع في فهمه لتاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية، وأن يستقر عليه بوصفه تاريخاً لنسيان الوجود، وأن يحقق بذلك تلك المرحلة المتأخرة على طريقه الفكري، وهي مرحلة «الرجعة» إلى الوجود ذاته. ولقد مهدت كذلك لهذه الرجعة تأملاته في مشكلة الحقيقة، عندما أرجع المفهوم التقليدي للحقيقة أو للصدق – وهو تطابق العبارة مع الشيء والفكر مع الموضوع – إلى الظاهرة الأصلية للحقيقة. وقد تبين له من خلال عدد من البحوث ضرورة انتقال الموجود من التحجب إلى اللاتحجب والظهور حتى يمكن الحديث عن مسألة الحقيقة. ومنذ ذلك الحين أصبح «اللاتحجب» هو الترجمة التي سكها هايديجر لمصطلح الحقيقة في الأصول اليونانية، بل أصبح هو الافتراض الأساسي الذي لم تتدبره الميتافيزيقا الغربية في تاريخها الطويل، ولم تفكر في أنه الشرط الأولي الذي تقوم عليه كل التفسيرات الممكنة لحقيقة الوجود، بما يترتب على ذلك من تحول من التركيز على الإنسان، إلى فهم الإنسان والعالم من جهة الوجود والحقيقة.

لقد كان الشرط الأساسي لهذا التحول أو لهذه الرجعة هو «التغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية أو تجاوزهما «بالرجعة» إلى أساسهما الأول، وهو التفكير في الوجود نفسه. هل مهد لهذه الرجعة تاريخ سابق داخل تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية ذاتها التي أعلن هايديجر عن نهايتها أو موتها؟ إنه تراث التنوير الآخر الذي أعاد الأمور إلى أصولها.

فما الذي يمكن أن يستفيده العالم الحديث من ثورة هايديجر القائمة على «الرجعة»؟ أظن أن المجتمع الدولي بحاجة الآن إلى التفكر في أوضاعه التي آلت إليها قفزات الإنسان القائمة على العلم والتقنية دون النظر إلى الركيزتين الرئيستين اللتين هما أساس رفاه البشرية واستمرارية هذا الرفاه؛ هما: «الإنسان» و»موارد الطبيعة». فمنطلق إعادة تكوين عالم صحيح البنية يفترض أن يكون منهما!

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة