Saturday 01/02/2014 Issue 426 السبت 1 ,ربيع الآخر 1435 العدد

مصاصو دماء المخيم

(مرحلةٌ طولها عدة دقائق وعرضها ثمانية وخمسون عاماً)

توماس ترانسترومر

(1)

قبل الدخول الى المخيم من أحد شارعيه، شارع اليرموك وشارع فلسطين، هناك حيث يلتقي الشارعان على باب مسجد البشير. هناك، قرب مستشفى الرحمة المطلة على شارع فوزي القاوقجي يوجد مقر للمخابرات الجوية السورية.

المخيم الذي يعتبر أكبر مخيمات الشتات الفلسطيني قاطبة. لا تحاصره فقط حدوده الجغرافية من قرى يلدا وببيلا والحجر الأسود والأحياء الدمشقية مثل الميدان والزاهرة والقدم، ذلك الحي الذي سمي بالقدم لأن نبي الإسلام محمد عليه السلام وطأه بقدمه. بل محاصر من الداخل والخارج بترسانات من العسس والبوليس السري والتنظيمات الفلسطينية التي لا عمل لها سوى خدمة النظام السوري بكافة جوارحها، حتى لو كانت هذه الخدمات ضد المصلحة الفلسطينية والعربية. ولشده ما هو كبيرٌ هذا المخيم، دفن شهداؤه داخله. فمقبرة الشهداء التي تعتبر أحد رموز النضال الفلسطيني، معنوياً وثقافياً، أخذت قسماً لا بأس به من أرض المخيم. ولشده حبه لهذا المخيم، فقد كان خليل الوزير (أبو جهاد) قد أوصى أن يدفن فيها حين يستشهد. في العام 1988 وبعد أن اغتالته إسرائيل في بيته في تونس، جاء جثمان أبو جهاد، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية ليدفن في اليرموك، وتحت ضغوط دولية كبيرة، وعربية أكبر، وافق حافظ الأسد، بعد محادثة هاتفية مع المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز، وافق على حضور ياسر عرفات جنازة رفيق دربه في دمشق.

لم تكن جنازة أبو جهاد في اليرموك عادية. فقد مشى في وداع مفجر انتفاضة الحجارة الأولى مليون شخص. أما الحدث الذي لم يكن حافظ الأسد ينتظره حينها فهو أن الجموع التي مشت في الجنازة أبت أن لا يمشي ياسر عرفات على الأرض فحملوا سيارته إلى مدخل المخيم وحتى وصولها إلى مقبرة الشهداء في نهاية المخيم.

لم يكن الصراع بين الرجلين، حافظ الأسد وياسر عرفات، صراعاً شخصياً فقط. بل كان صراعاً من أجل تجنيب القضية الفلسطينية لحكم ديكتاتور وطاغية. المعركة التي صورها في بداياتها غسان كنفاني في مقال له في مجلة الهدف قال فيه (إن نيل الحرية التي ننشدها لبلدنا وشعبنا لا يمكنها أن تعيش سوى حين تبقى مستقلة عن أيدي الطغاة) كان هذا قبل معركة - القرار الفلسطيني المستقل - التي كتب فيها الكثير من روايات وقصائد وغيرها. حتى أن محمود درويش الذي عاش حصار بيروت 1982 كتب قصيدته الشهيرة - مديح الظل العالي - التي تحمل تلميحات كثيره الى محتوى جملة غسان كنفاني.

بعد الشقاق المرّ الذي أحدثه حافظ الأسد في مسار الثورة الفلسطينية لكسر القرار الفلسطيني المستقل الذي كان ياسر عرفات، مدعوماً من العرب الآخرين، يناضل من أجله. ملأ حافظ الأسد سجون سورية بالفلسطينيين، سجن الأسد في سجونه عشرات الآلاف من الفلسطينيين المقتنعين بأهمية استقلال القرار الفلسطيني وعدم تبعيته لأي طاغية وخصوصاً الطاغية السوري. وكطاغية مبدع في فنون القتل، بالمناسبة ورث ابنه عنه كل الخصال التي يمكن أن تجتمع في طاغية مريض، بل وتفوق عليه في كثير منها. إذ أسمى حافظ الأسد أحد أقسى سجونه (فرع فلسطين) وهو سجنٌ بثلاث طبقات تحت الأرض وخمسٌ فوقها، كان تمارس فيه كل وسائل التعذيب التي لا تخطر على بال أحد.

(2)

في سورية الثمانينات، يوم عشنا في دمشق، هربا من الحروب التي كان لبنان يعيشها. كنت أذهب إلى اليرموك برفقة والدتي لكي نشتري كل الأغراض التي تأتي تهريباً من لبنان. كان (سوق التهريب) قبالة سينما النجوم ومخفر الشرطة الوحيد في شارع فلسطين، من أكبر أسواق التهريب في دمشق. هناك كان يمكن العثور على العربات المحملة بالموز والتفاح التي تأتي من لبنان. في تلك الفترة، كان حصول الطفل السوري على موزة واحدة أمراً أشبه بمعجزة، ذلك أن أهله، خاصة إن كانوا موظفين في الدولة أو الجيش أو الشرطة أو الأجهزة المختلفة. في ذلك الوقت كان المخيم واحة مزدهرة نجد فيها لبنان الذي تتآكله الحرب. لبنان الذي كان بالنسبة إلينا. البرتقال والموز والتفاح والمعلبات على أنواعها إلى جانب ربطات الخبز اللبناني الطري والسهل المضغ، بينما ولغاية اليوم، لم أفهم كيف كان السوريون يمضغون الخبز الذي كانت تصنعه أفران الأسد.

في سورية تلك كان المخيم مزدهراً، لكنه كان قد قمع بشكل رهيب، لدرجة أن وجود الرجال أو الشبان الذين تجاوزوا المراهقة كان أمراً غير اعتيادي. بعد موجة التصنيف التي شهدتها المخيمات السورية بين التهمة التي كانت بمثابة عمالة وهي (عرفاتي) والانتماء للتنظيمات الفلسطينية الأخرى. سحب إلى السجون معظم سكان المخيمات، وقد كانت تلك الفترة، من تاريخ سورية أكبر امتحانات حافظ الأسد على شعبيته بين الفلسطينيين التي لم تتجاوز منذ ذلك الحين سوى الجماعة التي تعمل لدى مخابراته كعسس وعملاء لا أكثر ولا أقل.

لم يترك حافظ الأسد المخيم وحيداً، بل إن المخيم الذي كان يفترض أن يكون للفلسطينيين دون غيرهم، زرع بسكان ليسوا منه ولا من الفلسطينيين. منذ منتصف الثمانينات وحتى اليوم، وبتخطيط مبرمج من رأس الحكم. دخل للعيش في اليرموك عشرات العائلات العلوية الفقيرة التي كان رجالها يأتون للعمل في أجهزة الدولة الأمنية المختلفة، وتم الإطباق على اليرموك بشكل محكم لا مثيل له، كما لم تشهد المخيمات الفلسطينية المنتشرة في دول الشتات الأساسية (سوريا، لبنان، الأردن) ظاهرة مشابهة. وكان المخيم ليلاً أشبه بغابة أمنية لا يسمع فيها صوت أحد. وسيطر الخوف من كل شيء وانعدام الثقة حتى بالجدران التي لها آذان على ما يقال في الأمثال.

وفي سابقة، لا مثيل لها، فرض النظام على الفلسطينيين تعلم أدبياته في المدارس الخاصة بهم. فقد كانت صور حافظ الأسد، الصورة الرسمية التي تعلق في مدارس الأنروا بدل خريطة فلسطين التي كان النظام يستعملها كشعار لا أكثر ولا أقل. وكان النشيد الذي يبدأ به التلامذة يومهم هو نشيد البعث في خطة تدجينية لأجيال كاملة من الفلسطينيين، إضافة إلى حصص تعلم الأدبيات العسكرية للجيش السوري، الجيش الذي كان يعول عليه تحرير فلسطين لكن مع الأسف لم يتصدَ يوماً لهذا الشعار. لكن الخطة التي فشلت فشلاً ذريعاً في إبعاد الفلسطينيين عن امتدادهم العربي الطبيعي، فشلت مع التنظيمات الموالية لحافظ الأسد. فلم ينتج (الفلسطينيون السوريون) أدباً بعيداً عن السياق الذي رسمه حافظ الأسد، بل على العكس، كان جلّ أدبهم يستلهم الفكر البعثي في تعامله مع فلسطين. كما ساهم النظام نفسه بشق اتحاد كتاب فلسطين، وأحدث له فرعاً في دمشق، المنتمون له، لا يشكلون أية قيمة ثقافية لمسار الثقافة الفلسطينية التي عرفت مع كتاب كبار وأحرار مثل إميل حبيبي ومحمود درويش ومعين بسيسو وغسان كنفاني … إلخ.

(3)

الصور والأخبار التي تأتي من اليرموك لا تزيح عن السياقات التي رسمها الأسد الأب. صور الأطفال الذين يموتون من الجوع، هي صور لم تنتج الحرب العالمية مثيلاً لها. إن الحصار حتى الموت جوعاً، هي تجربة مستلهمة من الغولاغ الروسي. وهي حرب إبادة لم يفعلها العدو نفسه، العدو الذي سرق الأرض قبل ستة عقود ونيف.

غير أن السؤال الذي يتبادر الى القلب قبل العقل، عن أين هم الأدباء الذين أنتجتهم قبضة حافظ الأسد الحديدية؟ أين خالد أبو خالد الشاعر الذي كان حافظ الأسد يريد أن يبارز به محمود درويش (هل رأيتم مهزلة أكثر من ذلك). هو في دمشق، لكنه لا يرى ما يحصل في اليرموك من تجويع قهري حتى الموت لأبناء شعبه. أين أعضاء اتحاد الكتاب الفلسطينيين في دمشق؟ لا أحد. وبالمناسبة فلا أحد يعرفهم. لقد صنع حافظ الأسد من اتحاد كتاب فلسطين مسخاً شبيهاً به.

إن الكاتب أو المثقف الذي تكون الحرية الكاملة غير المنقوصة أساسا في تكوينه الفكري، الأفضل له أن يترك هذه الصفات جميعها ويتحول إلى بائع تقارير مخابراتية قد تفيده كثيراً.

إن الجريمة ضد الإنسانية التي ترتكب في مخيم اليرموك وغيره من مناطق سورية، تصبح مضاعفة حين يتم إغلاق الأفواه التي كان هذا الشعب يأمل أن تصرخ لنجدته. أما كل القصائد التي كتبها هؤلاء في تمجيد فلسطين فلا تصلح، على الأرجح، سوى أوراقاً لمسح الزجاج أو لإعادة التدوير لشعوب تسعى لتحقيق نظافتها بالأوراق الناعمة والملونة.

سيمون نصّار - باريس