Saturday 01/02/2014 Issue 426 السبت 1 ,ربيع الآخر 1435 العدد

تلفيق الأكذوبة

برزت في الأدب العربي منذ أواسط القرن العشرين، وخصوصاً في الشّعر ظاهرة التّأثّر بما يُسمّى بالعهد القديم. وقد تعمّقت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة إلى الحدّ الذي صرنا نرى فيه تزايداً ملحوظاً في أعداد النّصوص التي تستلهم روح هذا العهد وما فيه من مزامير وأسفار. وقد كان من اللافت أنّ شيوع هذه الظّاهرة قد جاء متزامناً مع الفترة التي أعقبت احتلال فلسطين عام 1948. كان الأمر شبيهاً باحتلال آخر ولكن من نوع خبيث هذه المرّة. فقد فرغ الصّهاينة من الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وأصبح من اللازم الاستيلاء على العقل العربي، وإيجاد حيّز في هذا العقل يقبل الحوار مع الأفكار الصهيونية من خلال استلهام ذخائر التّوراة وأساطيرها! في مثل هذه الأجواء الكاملة من الريبة يحقّ لنا أن نسأل: هل يمكن أن تكون هذه الظاهرة جزءاً من محاولة المحتلّ لفرض وجوده الثقافي على الأمّة العربية إلى جانب وجوده العسكري المتحقّق على أرض الواقع؟ ففي فلسطين المحتلّة يجهد الصهاينة في سبيل إشاعة المفردات العبرية على حساب المفردات العربية، وبذلك فقد تسرّبت أعداد كبيرة من هذه المفردات إلى لغة الاستخدام اليومي مثل: رمزور (إشارة المرور)، محسوم (حاجز)، شمينت (نوع من أنواع القشدة)، وغير ذلك من المفردات المستخدمة في مجالات متعدّدة. يتذرّع البعض بحجج واهية أمام هذه الاغتباط المتزايد في أوساط الكتّاب بالرجوع إلى العهد القديم. فهم تارةً يقولون إنّ هذه العملية ربّما تكون مهمّة من باب اعرف عدوّك، وهم تارةً أخرى يقولون إنّ المسألة لا تتعدّى كونها محاولة لاستيعاب التّراث الإنساني القديم، خاصّةً وأنّ الإرث التّوراتي هو جزء من إرث المنطقة! بالنسبة للافتراض الأوّل يمكن القول إنّ المعرفة في هذا المجال لا تتحقّق من خلال الانكباب بشكل اعتباطي على فكر وأدب هذا العدوّ، وتمثّلهما على مستوى الحياة والكتابة، وإنّما من خلال دراسة هذا الفكر والأدب دراسةً فاحصة، ووضعهما في السياق الاستعماري، وفضح الهالة الإنسانية التي يتخفّيا وراءها. للأسف فقد جرى في العقود القليلة الماضية ترجمة العديد من المؤلّفات الصهيونية، ووضعها بين يديّ القارئ العربي، من غير أن تكون هناك أدنى دراسة أو حتى مقدّمة تعمل على توعيته وتساعده في تكوين وجهة نظر موضوعية. بالنسبة للافتراض الثاني وهو المتعلّق بالانفتاح على الإرث التّوراتي كونه يشكّل جزءاً من إرالمنطقة، فلا بدّ لنا من الوقوف عنده طويلاً وفتح باب السّجال حوله، قبل الخروج بنتيجة نهائية تحسم النّقاش فيه سلباً أو إيجاباً. هنا ينبغي علينا أن نسأل: هل لهذا الإرث علاقة بأرض فلسطين التاريخية، أو بأيّة أمكنة محيطة بهذه الأرض؟ وإذا كانت الإجابة بالموافقة فما هو شكل هذه العلاقة؟ هل هي علاقة حب وانسجام أم علاقة عداء وتنافر؟ ما هي طبيعة هذا الإرث التّوراتي؟ هل هو إرث إنساني حقيقي منفتح يعمل لصالح الحق والعدالة، أم هو إرث عدواني وضيّق يخدم أغراض فئة شرّيرة؟

منذ ألفي عام تقريباً، أي منذ خراب الهيكل المفتَرض، عمل اليهود على تدبيج هذا الكتاب الضّخم الذي سمّوه العهد القديم. لقد ألّفوه على مدار تسعمائة سنة، وضمّوا إليه ما اشتهت أنفسهم من أخبار وقصص وأساطير. منها ما كان يتّصل بهم، ومنها ما لم يكن يمتّ لهم بصلة. لقد سطوا على تراث الأمم الأخرى ونسبوه لأنفسهم. مع حالة الخراب التي عصفت بالحضارات القديمة استلّ اليهود هذا الكتاب وراحوا يباهون به شعوب الأرض، ويؤكّدون على أهمية الدّور الحضاري الذي لعبوه دون غيرهم في هذه المنطقة من العالم. في الوقت نفسه اتّخذ اليهود هذا الكتاب (العجيب) كحجّة دامغة على حقّهم المفتَرَض في فلسطين. لم يكونوا بحاجة سوى إلى بعض اللقى والنّقوش الأثرية التي تدعم حجّتهم حتى يعلنوا على الملأ أنهم أصحاب الوطن الفلسطيني دون منازع. وفي سبيل ذلك فقد جنّدوا طوابير طويلة من الباحثين الأثريين والدّارسين الغربيين الذين راحوا يفتّشون المنطقة حجراً حجراً من أجل العثور على دليل واحد يشير إلى وجود اليهود، غير أنّ الرّياح لم تسعفهم لأنّها كانت تجري في اتّجاه آخر مختلف تماماً. لم يعثر أحد من هؤلاء الباحثين على شيء، وبدلاً من ذلك فقد فوجئوا بوجود حضارات أخرى في المنطقة على درجة كبيرة من الأهمية. لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، فقد أماطت (كينون) عالمة الآثار البريطانية اللثام عن واحد من أهم الاكتشافات التي أطاحت بالقيمة التاريخية للعهد القديم، حين أعلنت عام 1952 أنّ سور أريحا لم يجر تدميره بحريق كما يدّعي هذا العهد، وإنّما بزلزال. عالم الآثار الألماني (فريدريك ديليج) خرج هو الآخر عبر سلسلة من المحاضرات التي قدّمها حول (بابل والتّوراة) بنتيجة مفادها أنّ سفر التّكوين غارق في ذنوب الانتحال. في هذه الأثناء توالت الاكتشافات بشكل كثيف وسريع، حيث تمّ الإعلان عن ضلوع كتبة التوراة بمجموعة كبيرة جدّاً من السّرقات، التي تنوّعت بين سرقات من آداب ما بين النّهرين، إلى أساطير من الكنعانيين والفراعنة. لقد تمّ سرقة سفر التكوين، كما تمّ سرقة مزمور أخناتون، وقصص الكثير من الأنبياء، وكان على رأس هذه المسروقات نشيد الإنشاد الذي لسليمان حيث تبيّن أنّه عبارة عن نشيد حب سومري. من الأشياء التي بقيت ثابتة دون غيرها والتي لم تستطع السرقات السابقة أن تخفّف من حدّة تطرّفها وغلوّها هي تلك الروح العنصريّة البغيضة التي يطفح بها العهد القيم تجاه الشعوب الأخرى. لقد أصبح ازدراء هذه الشعوب والتعالي عليها والدّعوة إلى البطش بها إحدى أهمّ السّمات التي يتميّز بها هذا العهد. بعد كلّ ما سبق كيف يمكن لنا أن نتّجه إلى العهد القديم لننهل منه ماء الكتابة وسحرها الأخّاذ! أيّة أكذوبةٍ هذه جرى تلفيقها وإشاعتها في جسد الكتابة العربية طوال هذه السنوات الطويلة حتى بات الروائيون والشعراء العرب يزدحمون بمناسبة ودون مناسبة أمام كتاب لا يعترف بإنسانيّتهم، أو كتاب هو في أحسن الأحوال جرت سرقة فصوله!!

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com