Saturday 01/03/2014 Issue 430 السبت 29 ,ربيع الثاني 1435 العدد

سطوة المصطلح

الميكافيلية

هناك محطات مضيئة في التاريخ البشري، حاولت عصابات المالكين تغييبها وإزالتها من الذاكرة، وخاصة عندما تتعلق بالمصطلح كأداة يمكن استخدامها سلبا أو إيجابا في الصراع.

استخدمت الميكافيلية مثلا، ولازالت تستخدم، بمعنى المصلحية القذرة، أي اذا كانت المصلحة الذاتية تتطلب تعطيل الحوار مع الآخر أو إقصائه أو عزله أو نفيه أو تشريده أو اغتياله فردا أو جماعة، فكل ذلك جائز إذا كانت المصلحة الضيقة تستدعي ذلك. ولكن المصطلح ليس لفضا وحسب، إنما هو موقف اجتماعي، والمتسلط هو من يحدد شكله ومضمونه واستخدامه، وبالتالي تصبح مقولة مثل (الغاية تبرر الوسيلة) المجردة من مغزاها الأول تحمل المشروعية الكافية للوي عنق التاريخ وتبرير الوسائل القذرة.

كانت (الميكافيلية) محطة مضيئة في تاريخ البشرية، فجاء من يشوهها ويعيد إنتاجها، كي تستخدم كتهمة ملصقة باسم فيلسوف عظيم مثل ميكافيلي، ليكون هو المتهم وليس الممارسين الفعليين للرذيلة.

ما هي الميكافيلية إذن و متى نشأت وكيف ومن هو ميكافيلي ؟

نيكولو دي ميكافيلي : فيلسوف ايطالي ولد في فلورنسا عام 1469م وتوفي فيها عام 1527م، كان والده من النبلاء (ملاكي الأراضي الكبار ابان حكم القياصرة)، تربى في مرحلة تفسخ النظام الإقطاعي وظهور الحركات الإصلاحية التي جرفته في بادئ الأمر، لأنها كانت تنادي الشباب الإيطالي للتمسك ب(الفضيلة)، ولكنه سرعان ما تجاوز بفكره المتنور مشاريع الإصلاح التجميلية وكثف جهوده للكشف عن خبايا التطور الاجتماعي و (سننه) وأسس للمنهج الواقعي، المنفصل عن اللاهوت، الذي أصبح عصب التنظير العلمي للعديد من فلاسفة عصر النهضة مثل فولتير ومونتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من الليبراليين. لقد كان ميكافيلي نقطة تحول هامة في تاريخ الفكر النهضوي، حيث أشار إلى أن المجتمع يسير بأسباب (طبيعية) والقوى المحركة له هي (المصلحة المادية) و(السلطة) ومن أهم ما لاحظه هو الصراع بين (الجماهير الشعبية) و(الطبقات الحاكمة).

سوية مع ليناردو دافينشي، الفنان الذي فاجأ الكنيسة برسم السيدة العذراء بوجه فلاحة بدلا من الوجه الارستقراطي كما جرت العادة، اصبح ميكافيلي الشخصية المثالية لعصر النهضة، حيث أشار إلى أن كل ما هو نافع جميل، والنافع الجميل هو ضرورة إنسانية. لقد أسس ميكافيلي بذلك لعلم الجمال، ولكن جماعات الربح تلقفوا قوله هذا بنهم ووضعوا له تفسيرا على هواهم، حيث أصبحت الميكافيلة هي الركض اللاهث وراء تحقيق الأرباح مهما كان الثمن. يقول الباحثون الأوروبيون :من اللائق وصفه بالذكاء بدلا من وصمه بالميكافيلية، فميكافيلي لم يكن ميكافيليا.

بعد سقوط آل مديتي وانبثاق جمهورية فلورنسا عام 1494م، تقلد ميكافيلي منصبا إداريا في الحكومة، وبعد سقوط الجمهورية وعودة آل مديتي للحكم مرة اخرى، تم حبسه ثم نفيه إلى قرية نائية. خلال منفاه كان يخرج مبكرا للغابة، يتبادل الحديث والإشاعات مع الحطابين ثم يذهب للحانة ويتبادل الحديث مع الطحان والقصاب والبناء ثم يعود إلى منزله ليخلع الثياب الريفية ويرتدي ثياب النبلاء.

(المعلومات مستقاة من ويكيبيديا-الموسوعة الحرة)

الغاية تبرر الوسيلة –قالها ميكافيلي لتوصيف إقصاء جمهورية فلورنسا الفتية للقياصرة وتحجيم دور الكنيسة ورفض تفسير الظلم على أنه قدر، حيث أدخل الفكر الفلسفي الأوروبي في طريق الواقعية وفتح الآفاق أمام نهضة أوروبية عارمة. هذا الفيلسوف العظيم، الذي وضع حجر الأساس للثورة الفرنسية، كما وضع الديسمبريين حجر الأساس للثورة البلشفية، لم يتم إخراج فكرة من سياقه وحسب، بل كافؤوه بتشويه شخصه وجعله بطل الأنانية واللاأخلاق ونسبت إليه الأعمال القذرة للأسياد القدامى والجدد على أنها من إبداعه، وبالتالي فهم أبرياء من ممارسة الرذيلة، إنما ميكافيلي من نادى بها.

الوعي الاجتماعي المتصاعد بسرعة لم يسبق لها مثيل في عصرنا الحالي، كفيلة بكشف الظلم الذي تعرض له ميكافيلي وغيره، ممن نذروا أنفسهم لنصرة المستضعفين في الأرض وإبراز الحقائق التاريخية وإضاءة الطريق أمام البشر ليدركوا ما هم عليه. وصم ميكافيلي بالانتهازية واتخاذه ستارا للأفعال القذرة، لا يمكن إلا أن يكون موضع مساءلة جماهيرية –فكرية –فنية –أدبية وأخلاقية، كما هو الحال لجميع المحطات المضيئة في التاريخ.

لقد انخرط العديد من الناشطين والأدباء والفنانين والمثقفين، ولا أبريء نفسي، لهذا التشويه الوضيع للميكافيلية طوال التاريخ بقصد أو بدون قصد، وذلك لأن الوعي مرهون بالتطور الاجتماعي، فالنهوض لا بد أن يكون رافعا للوعي، أما الانحطاط لا يمكنه إلا أن يكون ظلاميا مبتذلا للفكر والإبداع وطامسا للحقيقة.

الذرائعية التي وصمت بها الميكافيلية هي منهج سياسي لقمع التطور وخنقه بواسطة تعطيل المؤسسات والإجهاز على ما تحقق من إنجازات لإيقاف الصراع الاجتماعي بالقوة، أي إيقاف التاريخ. المثال الأوضح في عصرنا هو أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، التي كانت ذريعة مثالية للاتهام العشوائي والتحريض والتلفيق والتدخل في الشؤون الداخلية والاحتلال وتمزيق الممزق وفرض الهيمنة، أي لوي عنق التاريخ والجغرافيا، ولكن الولايات المتحدة فشلت، وستعاني هي ذاتها من هذا السلوك الارعن.

عادل العلي - الدمام