Saturday 01/03/2014 Issue 430 السبت 29 ,ربيع الثاني 1435 العدد

الدعوة إلى الدولة

(1)

إلى أين أخذ الناسَ خطابُ الدُّعاةِ؟ هذا المسمّى الذي يحمل في مضامينه ودلالاته وسلوكيّات حامله، ما يجعل الناس على طرف وحملٍ مغايران لطرف الداعية وما يحمله، فكأنّه يحمل الإسلام والناس يحملون الكفر! وأنتَ لست تدري كيف يكون هناك داعية للإسلام في بلاد الإسلام؟ (هذا إذا سلّمنا بأخلاقيّة أو صوابيّة ممارسة الدعوة أو التبشير وتغيير معتقدات الناس، ولكنّها إن بقيت في حدود الفرديّة فتلك مسألة شخصيّة لا تؤثّر في الكيان والدولة في أنظمة تفصل بين الدين والسياسة)؛ ومصطلح داعية يكشف عن رؤية حامله للآخرين والدولة، ذلك أنّه يتضمّن في حالتنا دلالات: (أ) أنّ الداعيةَ مسلمٌ وأنّ الموجّه لهم الخطاب ليسوا على الدرجة عينها من الإسلام أو ليسوا مسلمين. (ب) أنّه مفوّضٌ من الله. (ج) أنّه وريث النبوّة. (د) أنّه المصدّق على شرعيّة قرارات الدولة.. وغيرها من الدلالات التي تجعله فوق الإنسان والدولة لكونه مقدّساً بتمثيله المقدّس، وهي دلالات مرفوضة على مستوى الدين والدولة معاً؛ فهل يُدرك الداعية نفسه ما يتضمّنه هذا الفعل: شكلاً ومضموناً، فكراً وعملاً؟ أمْ أنّه في ضلالٍ عمّ نفكّكه ونرصده؟ فزعيم الإسلام-السياسي التونسي راشد الغنّوشي في سياق حديثه مع أحمد منصور على قناة الجزيرة يضع (الداعية والنبي والسياسي) في سلّة واحدة، ثمّ يسترسل في أوهامه ويسوّق لخطاب متعدّد وديمقراطي، وهي ادّعاءات فيها استخفاف بعقل السامع حينما يسبقها ادّعاء من يضع نفسه كداعيّة في سلّة واحدة مع الأنبياء... فكيف يستقيم الحوار معه؟ وهل الناس المتورطون بتبعيّة هذا الخطاب يعلمون إلى أين يأخذهم بعيداً عن مفهوم الدولة وقريباً من مفهوم الانشقاق؟ فإذا كانت كوارث (الخلط بين الدين والسياسة) قد ظهرت لأتباع الإخوان المسلمين في مصر والعديد من الدول العربية والإسلامية الأخرى، فإنّنا لا نستسلم أنّ الإدراك بمخاطر (الجمع بين الدين والسياسة) قد انتشر لدى أكثر عموم المواطنين العرب المتأثرين بالفكر الديني-السياسي بطريقة أو أخرى، ذلك أنّنا تأخّرنا في تأهيل قيمة الفصل بين الدولة والديني-السياسي لحفظ الدولة والدين معاً، وعلى الرغم من ذلك فإنّ طريق الإصلاح السياسي ليس يسيراً، ولكنه قد بدأ شيئاً فشيئاً بالتأثير على المتسائلين والمتشكّكين بقيمة الدولة في حماية الدين بعيداً عن أوهام وأطماع الديني-السياسي، إلى جانب واقعيّة الكوارث التي آل إليها الربيع العربيفي عصرته الأولى.

تلك أسئلة عديدة، نطرحها للتداول، لأنّ الإصلاح لا يتم إذا لم يشخّص حجم الضرر الناجم عن (دعوة) انفلتت من عقالها ولم يكن ليحدّها رادعٌ منذ عقود عدّة، وكان التعامل معها في محطات التعارض تعاملاً آنياً، لذلك لا يمكن الاستهانة بحجم تأثيراتها على عقول الناس وسلوكهم، لكأنّ جزءاً من الناسِ لم يعد ينتمي إلى الدولة إذا ما وافقوا على بضاعة الداعية، وإن لم يكن في نيّتهم انشقاق، فأكثريّتهم لا يدركون دلالة السير وراء فتاوى الدعاة عند مخالفتهم الدولة، وهو ما يستوجب إلى جانب القرارات السياسيّة إعادة تأهيل خطاب الدولة، وتأصيل مفاهيمها لدى المواطنين عبر قنوات رسميّة وأهلية عديدة.

(2)

ليس مخاطر اختراق سيادة الدولة حكراً على الحركات الدينيّة-السياسيّة، إنّما المخاطر قائمة في أيّ حزبٍ أو تيّار يريد أن يقصي كلّ مكوّنات الدولة ويمارس رؤيته الأحاديّة، وهو عمل مجرّم وفقاً للأنظمة السياسيّة التعدّديّة وقوانينها، بينما تبقى الدول العربيّة غير حاسمة في مسألة علمانيّة الدولة وحظر العمل الديني-السياسي، لا على مستوى القوانين ولا على مستوى التأهيل والتعليم، ممّا يجعل لهذه الحركات حظوة ومنافذ تُهدّد دائماً وحدّة وسيادة الدولة؛ ونحن لا نستثني صدور هكذا أعمال في أحايين قليلة من الحركات العلمانية السياسيّة في صراعاتها على السلطة في الأنظمة الديمقراطيّة، لكنّها تبقى مرصودة إعلامياً ومجرّمة قانونياً، ممّا لا يضعها في مستوى تهديدات السلم الأهلي العالية إذا حُوصرت، لأنّها محصورة في مكانها السياسي، فأخطاء السياسة تخضع (للنقد والمراجعة) وفقاً لموازين إنسانيّة متعلّقة بالخطأ والصواب والجريمة والعقاب، وليست ذات ارتباط بتقوى الإنسان وطبيعة معتقده، وهو الخلط الضروري في دعوة (الداعية) والإسلام-السياسي والإصرار على اعتماده في (حسبة وتفتيش) أعمال السياسيّين، إذ يكيل أعمالهم السياسيّة بميزان انتقائي-ديني يخلط بين الدين والدنيا، وهكذا خطاب يجرح الإنسان والواقع؛ كما يُخشى منه أنّه يُعمي أو يفسد قراءة أعمال الرعيل الأوّل حين يخلط بين قراراتهم السياسيّة وتقواهم الإيمانيّة الخاصّة؛ فأنت لا يمكن أن تفهم التاريخ العربي الإسلامي الأوّل إذا ما خلطت بين الدين والدولة؛ بدأً بما سمّي حروب ردّة، إذا ارتدّت قبائل في الجزيرة إلى ما قبل مركزيّة (الدولة/الأمة)، وهي المركزية الدنيويّة التي أقامها النبي العربي عليه السلام، وما نعتقده أنّها متّسقة مع مفهوم الدولة السائد حينذاك، والمختلف عن المفهوم الحديث تبعاً لاختلافات الخزن المعرفي والتطوّر العلمي والإنساني للكيانات والدول، وتلك المركزية لم تكن مركزيّة دينيّة؛ لأنّ مفهوم (وليكن الدين كلّه لله) انتصر أخيراً، هكذا ينتفي وينتهي أيّ صراع حول الدين وتنفتح حريّة المعتقد {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (9 - 10) سورة العلق، فلا أحد بين الناس يحاسب أحد من الناس على معتقداته، كما كان الحال قبل انتصر مفهوم (الدين كلّه لله)، ومن هنا نفهم المقولة المنسوبة للنبي العربي: (وإنّي والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكن أخاف أن تنافسوا فيها)، لأنّمسألة الدين والدعوة لحرية الدين والاعتقاد قد حُسمت، ولم يعد هناك أحد يدّعي أنه يحكم الناس بصفة مقدّسة كفرعون، ولا يجوز التنافس على ذلك، وصار الناس يحكمون أنفسهم بأنفسهم وفق ضوابط عموميّة وضعها لهم الذكر الحكيم ونظرية الحدود، وفي الوقت عينه أعطى لهم حرية التطوّر والتحرّك، شرط ما ينفع الناس، ضمن مركزية دنيويّة أسماها النص القرآني: (أمة)، وهي النواة الأولى للحكومة العربية الإسلاميّة. إذاً، كانت حروب الردّة (حروباً دنيويّة) أمر بها ولي الأمر لأنّها انشقاق عن الدولة ودعوة إلى الابتعاد عنها، (ولهذا تفصيل في مقام آخر عن الردة بين المتن القرآني والنبي والرعيل الأوّل). هكذا نفهم أنّ أعمال السياسي-الدنيوي أو السياسي-العلماني إنّما تقاس أعمالهم بميزان ما ينفع الناس دنيويّاً، ومن ميزان الخطأ والصواب النسبي، ومن ميزان الجريمة والعقاب المنصوص عليها في قوانين الدولة عينها، ولا تخلط أعمالهم بالمعتقد وبميزان التقوى والإيمان لتضليل الناس.

بينما مخاطر حركات الديني-السياسي أنّه لا يقوم على تعدّد، فأساس دعوته قائم على هدي ما هو ضال، والضلال عنده هو اتّباع الدولة المدنيّة وقوانينها الوضعيّة، والهدي هو منظوره احتكاري وتقويمه الشخصي لمدى شرعية الحكم في الدولة، من هنا لا تعدّ المخاطر الناجمة عنه دخيلة عليه ويمكن تقويمها وإزالتها بل هي قائمة فيه وإزالته هي تغيير طبيعته الدينية-السياسيّة إلى طبيعة علمانيّة-سياسيّة، فأصل في طبيعته الاستحواذ والاحتكار، وفي هذا ما يفسّر الضرورة لوجود التناقض القانوني بين: (تشريع الحرية السياسيّة وبين تشريع حظر الأحزاب الدينيّة-السياسيّة القائمة على الدين)، وهو التناقض الضروري لحماية الحريّة لحماية السياسيّة ممّن تستند دعوته على نفي الحريّة واستغلال إيمان الناس في اختياراتهم، فلا تكون اختيارات الناس حرّة وصادقة مع الواقع، إنّما جبريّة وإكراهيّة لأنّها خاضعة للتضليل والمراهنة على تبعات التفريط بالإيمان.

(3)

هكذا تخترق دعوة الديني-السياسي سلامة العقد الاجتماعي إذ يضع الشعب أمام خطاب يدعوه إلى الابتعاد عن الدولة وقوانينها، والامتثال لخطاباته ومحاذيره ونواهيه وأوامره. فلكم نحن اليوم بحاجة إلى دعوة مضادّة لدعوة دعاة الديني-السياسي، دعوة للعودة إلى مفهوم الدولة ومؤسّساتها ومكوّناتها على أسس تعدّد ثقافات السكّان وحقوق المعتقد الفرديّة، والقوانين التي تحافظ على حريّات الأفراد وممتلكاتهم، وعلى عقائد الجماعات وخصوصيّاتهم، تحت تجريم استغلال الدين لمصلحة العمل السياسي، الذي هو محض دنيوي.

وحينما نقول: (الدعوة إلى الدولة)، فإنّما المقصدُ: أنّنا نفرّق بين الدولة وبين السلطة، وأنّ الدولةّ كلٌّ يتضمّن: (ميثاقاً/دستوراً/عهداً، نظاماً، حكومة، قضاء، ناساً، أرضاً، واعترافاً دوليًّا بها ومكوّناتها)، وأنّ السلطة السياسيّة هي طرف في العقد الاجتماعي، وجزءٌ من الدولة وليست كلّ الدولة.

ياسر حجازي - جدة