Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد
01/11/2014

أسطورة وأساطير 2 ـ2

تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية، وذلك مثل التكوين، والأصول، والموت، والعالم الآخر، ومعنى الحياة، وسر الوجود. والنص الأسطوري يحافظ على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن.

لهذه الشخصية الرائدة زوايا متعددة ومتنوعة، قد نطل عليها من خلال نتاجه الأدبي الغزير. وقد سعيت في الحلقة الماضية لرؤية ذاتية، سجلتها من خلال شرف معرفة شخصية، وأحاديث ذكريات مواقف فيها تجربة وعبرة، وحتماً الدارسون لنتاجه الأدبي المتنوع، وقد توزع ما بين الشعر وأدب المقالة النثرية التي برع فيها، يتناولون نتاجه بعناية ودقة في دراساتهم. وأعرف أن الصديق الشاعر محمد عابس يقدم رسالة ماجستير في أدب المقالة عند الجهيمان، وهناك جوانب أخرى من أدب الرحلات، والذكريات، والأمثال، والجانب التربوي، وقد قام أحد الأساتذة بدراسة في هذا الجانب. وعلمت مؤخراً بأن هناك أيضاً دراسة التربية عند الجهيمان، وحصلت بها الأستاذة منيرة الحربي على درجة الماجستير. نعرف دراسة الأستاذة بدرية عبد الله البشر للحكاية الشعبية، ولا شك أن هناك دراسات تناولت هذا الزخم المتنوع، ولكن لماذا أساطير الجهيمان؟ يكفي أن تنطق هذه الجملة؛ لتفتح عالماً وفضاء على نافذة المعرفة التراثية في نجد، ولا بد أن تحضر في البال بحكم ولعي بالأساطير، وانحيازي بالضرورة إلى دراسة قيمة موضوعية، قدمها الصديق المبدع عبد الله محمد حسين العبد المحسن عن مكتبة الملك فهد، ونال بها رسالة ماجستير عن إحدى الجامعات الروسية، ونلتقط في البداية رأي الدكتور بكر با قادر، الذي يصف الدراسة العميقة التي كتب مقدمة لها (تداعي الواقع في الحكايات)، التي بين أيدينا عن أساطير الجهيمان نموذجاً، بأن المؤلف الأستاذ عبد الله محمد حسين فصل في هذه الأمور؛ ليوضح لنا أن تسمية الجهيمان لحكاياته التي جمعها من الناس في وسط الجزيرة العربية إنما هي مزيج من الحكاية الخرافية والحكاية الشعبية، ولا يكاد يكون بينها ما يصدق على تسميته أسطورة بمعناها الفني الاصطلاحي، رغم أن العرب بسبب حياتهم الدينية والثقافية التي تتفاعل مع بيئتهم الصحراوية الشحيحة الموارد وذات الطبوغرافيا الوعرة وحياتهم لا تخلو من أساطير، لكن هذه الأساطير ربما كانت مختلفة عما كان سائداً في الثقافات المجاورة، وبخاصة الأساطير اليونانية والرومانية.

والمؤلف الباحث المبدع الذي يجلي الالتباس ويبين في مفهوم الأسطورة أراد وضع هذه الحكايات في سياقها بمنهجه الخاص، وتتبعُ موضوعاتها السردية المتنوعة الحقول؛ ليتمكن من فهمها وتحليل الحكاية الخرافية (وتجنيسها) وتحديد هويتها، ويسارع إلى تحليل المضامين الاجتماعية والسياسية، يقودنا في براعة إلى استخراج تفسيرات لهذا الواقع الغامض، خاصة إذا ما أدركنا أن مجتمع وثقافة وسط الجزيرة العربية ظل مجهولاً لتصبح هذه الأساطير ومن ثم دراستها كنوزاً ومنجماً مهماً يكشف ما تراكم عليها عبر السنين، وتصبح أساطير الجهيمان ليست مجرد حكايات للتسلية، فهي فعلاً تأتي للمتعة كمنتج سردي، لكنها تأتي كمفاتيح لواقع مجتمع له قضاياه المجتمعية والسياسية، والنفاذ إلى عمقه وتجلية جملة من التراكمات الثقافية والمجتمعية.

والباحث الذي يتكئ على عدد كبير جداً من المراجع العلمية يوضح أنه اصطدم في دراسته بخلط مخل بين الحكاية الخرافية والحكاية الشعبية، وقد توصل إلى فرز الأسطورة ومعرفتها، واستعرض العديد من التعريفات والتصنيفات والمناهج التي اهتمت بها؛ لأن الحكايات قد انبثقت من حياة الناس ومعاناتهم، وعكست بوضوح أنشطتهم الاقتصادية ونظمهم الاجتماعية، فنسجوها وهم يمارسون حياتهم ثم أوقدوها في سهراتهم كقصص، تمثل واقعهم ولم يستجلبوها من خارج بيئتهم.

ويذهب الباحث في دراسته لأساطير الجهيمان، وتقسيمها حسب منهجه إلى ثلاثة فصول، تناول في الفصل الأول البيئة - السكان - الأديان والمعتقدات، مستعيناً بأقوال متنوعة ليقارن بينها، ويخلص إلى أن أساطير من قلب الجزيرة العربية قدمت لنا صورتين مختلفتين بل متناقضتين، فالأولى أرض قاحلة تتخللها الهضاب والتلال والكثبان، وغطاء نباتي فقير، يكاد ينحصر في الوديان والواحات، ومناخ قاسٍ، شمس وهاجة، وسموم لافحة، وشح في موارد المياه، وندرة في الأمطار.. والأخرى تتحدث عن قصور باذخة وعيش رغد، وترسم مناظر خلابة للربيع والخضرة، وترد قائمة طويلة للنباتات والحيوانات؛ ما يؤكد توافر المقومات الأساسية للتجمعات البشرية، وحاضنة لأرث ثقافي ينتمي لطبقات العرب البائدة، وينتمي الآخر للقبائل العدنانية والقحطانية. ويعني بالأديان تلك التي سبقت الأديان السماوية التوحيدية، وتشريح العلاقة بين تلك المعتقدات والأساطير. وعندما أصيبت تلك الأديان بالوهن تخلت عن بعض الأساطير؛ ليتحول جزء منها إلى حكايات خرافية، وتفتت بعضها واندس في الحكايات الشعبية على شكل معتقدات خرافية، تعيش بيننا حية إلى الآن، مثل: التشاؤم من الغراب أو القط الأسود، والمرأة الحبلى التي يجب أن تأكل الطعام الذي تشتهيه، ولمس الخشب، وتعليق حذوة الفرس وفردة الحذاء.

الأسطورة، القصص، الأمثال، الشعر، الحكاية الخرافية، الجان، الحكاية الشعبية، يمكن عنونتها بـ(الحياة الثقافية)، وحملها الفصل الثاني من الدراسة، فيمضي الباحث ليفصل لنا في دراسته بين العناوين، ويستحضر مقارنات لتعريفات متنوعة، لينهض سؤال محوري: أين الأساطير في أساطير من قلب جزيرة العرب؟ ويجيب بأن مشروعية السؤال تقوم على فرضيتين، تستبعد الأولى الانقراض الكلي لثقافة عاشت، وأنتجت خصوصيتها التي عكست بمستويات مختلفة أوجه حياتها وتصوراتها وقيمها ومعتقداتها، ويفترض أن تتضمن موروثها الثقافي بمختلف أشكاله، شعراً ومثلاً وأسطورة وخرافة وحكايات. والباحث في الفرضية الثانية بأن يكون للعرب أساطيرهم، كالحضارات الأخرى، كنتيجة حتمية للعلاقة الجدلية بينهم وبين محيطهم؛ ليفضي بنا السؤال إلى كتاب الأصنام لابن الكلبي، وقد رصد ما يقارب الستين صنماً كاللات والعزى ومناة، وأحد عشر بيتاً ككعبة نجران، وكعبة سنداس، والقليس، رضى، الظون، ذي الخلصة التي وردت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما قال: «لا تذهب الدنيا حتى تصطك نساء دوس على ذي الخلصة، يعبدونه كما كانوا يعبدونه». ولا يستبعد المؤلف ضياع جل الأساطير في حرب الأديان التوحيدية ضد الشرك، وقد تضمن بعضها ما يتعارض مع مبدأ التوحيد، وارتباطها بالحياة الوثنية التي أفرزتها، لكن في النهاية الشواهد كثيرة على امتلاك العرب الأسطورة، وتحفل بها كتب التراث والمدونات الإسلامية والأدبية والتاريخية.

والواقع أن دراسة علمية رصينة قد تسرف بنا في التنقل بين أقوال العلماء والباحثين، وهم من الكثرة التي جعلت المؤلف في تطواف مستمر، يتنقل بين فروع وعناوين دراسته، ويقلبها على وجوه عدة؛ ليحظى بين المراجع والمصادر، ويظفر بتعريف شامل وافٍ، قد لا تستحملها سطوري هذه المبتسرة؛ لنأتي مباشرة إلى الفصل الثالث، ويحوي دراسة الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي، ويندرج تحت هذا العنوان الصيد والزراعة والرعي والتجارة، ويسير تلك الحياة نظام مجتمعي يتمثل في القبيلة والأسرة، ونجد في هذا الفصل ملامح أساطير من قلب الجزيرة العربية؛ إذ يؤكد الباحث أن القارئ لن يجد عنتاً، وتلمس الملامح للنشاط الاقتصادي السائد في وسط الجزيرة، وقدمت حكايات المجموعة إنسان قلب الجزيرة، شخصية قوية قادرة على التعايش في الظروف القاسية، يستل لقمة العيش من بيئة فقيرة شحيحة. ويقع المؤلف على مفصل مهم في هذا السياق؛ إذ يستبدل الجهيمان الحلم أحياناً بأداة قوة سحرية، تذلل الصعاب وتحقق الأماني والرغبات للذين يمتلكونها..

ومثلما أورد الباحث بعض أساطير الجهيمان، وتم فرزها وتأويلها وملاحظة تكرار بعض خطاباتها وملامحها، لتؤكد مكانة القيم والإشادة لمن يتخلق بها، فقد لاحظ القيمة الفنية والموضوعية الكامنة في الحكاية، وتجسدت إبداعية (الراوي) الجهيمان، وقدرته في التصرف في العناصر المكونة للأثر المنقول، وإثرائه للنص المروي ليصبح حكاية قابلة للتأثير، وتصبح واحدة من مآثر الجهيمان جمع هذه الثروة المهددة بالفقدان والضياع، يدفعه وعيه الناضج بقيمة هذا الموروث، فقد رآه أصدق من التاريخ المكتوب، وأدق في رسم الحياة الاجتماعية، وأكبر مقدرة على تكوين صورة وافية.. ولن نجد أدق وأصدق من الأمثال زبدة تجارب تلك المجتمعات، ولا أقرب إلى الصدق من الأساطير التي هي فضاء خياله الرحب وأفق تطلعاته.

** ** **

* تداعي الواقع في الحكايات - أساطير الجهيمان نموذجاً - عبد الله محمد حسين عبد المحسن.

* استدراك: قاسمني الصديق الأستاذ محمد السيف في حديث الذكريات عن أستاذنا الشيخ الجهيمان الرحلة والشعر والسكن في دمشق ولذا لزم التنويه.

- الرياض