Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد

نبأ الدخان

الدخان شكل يسبق فكرته

الدخان رغوة تدثر البشر، الدخان يشير إلى آباء ذهبوا نحو المعابد ولم يعودوا، وما هذه إلا صفائح منتشرة في عتمة مجهولة تحت حزمة من اللهو تحيل إلينا وفي الوقت عينه تستل مسارب سرية تتضرع عند قداستها روح الحيوان الزاحف نحو أوكار وحشية. الدخان لثغة آدم قبل أن يغطس في طاسة التكوين فيكشف عن كل اسم دلالته الموحاة، إنه الأليف المهمل على قارعة مهجورة ترك قصداً ليقرع الضحى. الدخان طفل يلهو ولا يتورع عن تعرية التماثيل أو حتى محو ما خلناه عصياً على المحو، هو وارث الفراغ وإنا إليه عائدون.

ذهبوا وظل زبيبهم شاهداً على خابية يغزوها النمل. لو لم نمت ليلة اللقاح ربما طشنا في رحلة قنص تجعل من الدخان طيراً يخف إلى الرقص مع الأراغن الساهرة على فجر غريق. الدخان فكرة مشتركة ولأكثر من سبب تنزاح عن كواهلنا دالة على مقتله ضاحكة تغشاها الرتيلاء المصابة بالعمى. سألطم عباد الشمس لأقنعه بالدخان، لئلا أحنث عهدي في العراء المنظور، كذا علي أن ألتمس ميقاتاً ليلياً لعله يقايض حبر النهار بالرقيم، ولن يضيرني أن أغطش الستارة الضاربة إلى سواد كيما يتسلل إحليل الضوء على إليتيه المائيتين قبل أن يلج الزوبعة. كل شيء ذاهب إلى الدخان والدخان قرين الوقت بل هو إغماضته القادرة على النوم في الظلال أو الطيران مع المطر.

أظنه شجرة تتسلقنا إلى أسفل، بقرونها الدرنية تكنس بقايانا عن المائدة. الدخان شجرة تزين الملوك بالتيجان واليواقيت، وهي تتربص بالكمائن لعلها تحظى يوم يفور التنور بالمحظيات اللواتي يطرطشن الماء على نار شبت للتو.

الدخان توابيت راكدة غير أنها تغوص في الدم والطمي ساخرة من الخلود ذاته أو هي حيلة من حيل الرسولة إذ نزعت شعرة من فروة رأسها وعلقتها في مدخل غار سكران يظهر ساعة ويختفي أخرى.

أي مغرم ينشد هذا المجازف بالتعضي وكل كتاب ينسخ غيره. رب بندول لا يبتغي عوضاً عن سلالته. أللمرح وصاية على الورثة إذا يتفحصون بمناماتهم المطرزة بالزمرد كنزاً مخبوءًا تحت عتبة اندلقت من بيت مهجور.

أو لم يأتك نبأ الدخان يوم جعلنا منه مارداً لم تروه بأعينكم من قبل، وأومأنا لإناث لم يطمثن من قبل أن تسللن مع الشفق إلى وادي الطلح حتى إذا ظهر ملك يمج على الحجر دخاناً ويهم بتمويه الجّبانة ليوقع بكن، قلنا يا إناث دلكن أثداءكن تحت الغلس، ينقلب الوادي مرجاً يتهاطل من قبته ثلج يسرد نفسه على أصول الشجر. وكانت تلك علامتنا.

الدخان المخاتل يوزع روحه على الأقاصي ريثما يغشى الشاعر سرير عشيقته وفي رأسه غيمة شفافة مأهولة بشبق الجحيم وزمج الماء. إنه الدخان ذو الظرف الأكثر حرجاً يضمر بلورته في معجم الجسد فيما يعرج في الخرائط على هيئة طفلة ماكرة تنفض عن الحبر وخامة الظل منتظرة لصاً باسلاً يختلس بلورتها المتوهجة ويوقظ النعاس من جديد.

وضعت الدخان في زجاجة تحت جبل ثم أقفلتها بلعابي، وحين انصرمت الأزمنة وبدأ شعري يتساقط عدت إليها مأخوذاً بالقصف، لم تتغير كثيراً والدخان باقٍ على ما هو عليه كما وضعته أول مرة. لكن كلما رججت الزجاجة فاجأتني صور منسولة من مخيلة الناس، ها أنذا أتعثر بعباءة نبي قضى في الغربة، أتعثر بأنثى تركتني أوقع على شفتيها بطريقتي النادرة، أتعثر بطائرة ورقية مربوطة إلى أذني، أتعثر بطفل يفضل الغرق على آلهتك هارباً من المواقعة ليركض في الرمي، أتعثر بزنزانة عارية أضيق من تابوت، أتعثر بالأقدام النزقة وهي تقترف نزوات ليلية بحثاً عن صاحبة التاج، أتعثر بالطير الطالع من عتمة المناجم، أتعثر بالوالي السعيد ذي العين الناعسة يسرح شعره مع (أليس) في بلد العجائب، أتعثر بدمي المهدور وبطابور طويل من الجثث لم تجهز أجداثها بعد.

الدخان ميلاد الروح على الأرض بل هو زهرة النار تختبر الغد الضجران وهي تتسلى بالمياه الوخيمة مطلقة بهلولتها نحو اندماج وثني. الدخان قفطان الموت وقد تهيأ للعبة الأكثر غموضاً مذ تفوه الجساس بالأصالة عن نفسه المائعة كبوصلة محبوسة في اللهب، ليمكث تحت النيكل يتربص ريحاً تلد نفسها لحظة بعد لحظة لفرط ما فطمتها الهولة على صوتها حتى غدا بيتاً تسكنه الريح.

بلاد تنحر الورد وتقضم تفاحة سوداء موغلة في الدود فيما تكرز على الفتوى الفادحة، قابضة على الهباء، هي ساعات ملتبسة يستوي خلالها مخمل الملوك. لكن الناس هنا أكثر احتفاءً بحتفهم من الموت ذاته. إنهم ينضدون الطلح المترحل قافلة قافلة ويضحكون أثناء هلاكهم بلا دم مثل وزغ يرقص في مقتلته.

دخان يزين نشأة المكان بالإناث، ألم يكن ذات خلاء نكبة من نكبات الحب، ألم يشحذ الطبيعة والنحل والجبل والطير والمياه أن تجعل منه أنثى غير مقصورة على ذكر؟ أيهذا الدخان تكاد تكشف سر الناموس بانكبابك على ما لا يرى.

لكنه أي السر محض دخان آخر يعبر المدار ليهوي في قلعة مكمنها مفق ود، السديم ولا شيء سواه. وهذا النادل الأنثوي يحثو رملاً أسود باتجاه الكوكب الأحمر البعيد غير أن هذا الأخير تتدلى منه أقفاص داخنة وأجنحة نارية بذرت في حجر درى. الطفل والحيوان كلاهما يتداولان الجنة بحبور من يبعد زهرة الجسد.

للمنتقض قرب الغابة ضراوة العبور يدفعه وشاح وردي، ما تزال زهرة الرمان عالقة على شفتيه، ينضو مدينته بتوجس ثم يدخل ظلمة كثيفة تفضي به إلى غابة يزخرفها الرماد، يلتقط أغصاناً صغيرة يضعها في حقيبته الفارغة ثم يعود من حيث أتى، لم تكن هذه الأغصان الذاوية سوى إناس سقطوا سهواً من جعبة رعاة أزليين يرعون الرماد ويدخرون النوم ذلك أنه ملهاة لا تنتهي.

بلى هو ميلاد الأخيلة، وإن شئت فهو يشتغل على فراديس صغيرة وغامضة، هدية يقدمها غلمان الموت إلى ضيف ينزلق في التأويل والسكن، ليربض أبداً عند بوابة ضيقة يغطيها شجر موحش يخرج من إبطيه. هو الضيف ذو الجهامة يدخل النول كما عهدناه في رحلاته كلها خالياً من العلامات والأسانيد، يذهب مكتملاً في الطور الأبعد بل الأكثر بعداً كمن يعود ناقصاً بل الأكثر نقصاناً لأنه مصفد بالأضداد.

الدخان ذو المظلة الضبابية موغل في الملهاة، يزخرف المجرة ويردم أرواحنا بالرماد.

زياد السالم - الجوف