Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد
01/11/2014

خالد الفرج .. رائد الملاحم الوطنية في سيرة الملك عبد العزيز (3)

قال صالح الذكير في مقاله: «إن من يقرأ في وطنيات الشاعر خالد الفرج لا يتصور أبداً أن لدى ذلك الشاعر المفكر الثائر على الاحتلال والجهل والفقر وقتاً يمضيه في قول الشعر الفكاهي والقصائد المرحة والدعابات اللطيفة».

كما كتب غير هؤلاء عن السمات الإنسانية في شعر الفرج، مذكّرين بشكل خاص بالمواقف الوجدانية أمام حالة تحرّك الشجن وتثير الفكر، وهي حالة طفل من القطيف كان أبلهاً ومات أبوه مجنوناً، وكان الطفل «حمّادي» في حالته تلك «يمثّـل الفطرة الإنسانية الفاضلة، وفي شخصه تتوافر الخصال التي يتخيّلها الفلاسفة في أهل طوبى، حتى صار رمزاً جال معه الفرج في صور الحياة والناس في أسى وحذر»، فكتب محمد رضا نصر اللَّه في العدد 6601 لسنة 1406هـ من جريدة الرياض مقالاً بعنوان «حمّادي وأوراق ضائعة من حياة خالد الفرج» وأعقبه في الجريدة نفسها بمقال آخر، ثم أتبع المقالين بمقال ثالث في المجلة العربية بعنوان مماثل، استهلّه بنبذة من سيرة الفرج ثم بتحليل منهجه الشعري، مورداً بعضاً من قصيده المجهول مما لم يكتشفه خالد الزيد عند تأليف ديوان الفرج، وكان مما قاله الأستاذ نصر الله:

«وعلى مدى ربع قرن، كانت الأحداث الوطنية والعربية تلهبه، فتتوقّد قريحة الشاعر وتزيده ضرماً من الشعر والمواقف والأفكار، تلك كانت مكوّنات الرجل الذي أصبح واحداً من أبرز رموز التنوير الثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، كان الفرج نغمة خاصة ذات نشاز، نظراً لما شكّلت آراؤه الفكرية وأعماله الاجتماعية من خروج على المألوف السائد الساكن في المنطقة، فهو أولاً يمحور شعره حول قضايا الأمة العربية، ويتبنّى بشكل خاص القضية الفلسطينية في بداية محاصرتها من قبل الاستعمار الغربي والصهيونية:

ما وعد بلفور إلا بدء سلسلة

من المظالم في التاريخ كالظُّلم

وما فلسطين إلا مثل أندلسٍ

قضى على أهلها بغيٌ وعدوان

وانطلاقاً من هذا الموقف الواعي للقضايا العربية، ينتقد خالد الفرج الواقع السياسي الممزّق في الخليج، الذي لم يتصوره يوماً «غير شعب واحد قد مُزّقت بيد العِدا وحداته» مما جعله يتطلع إلى بطل تتمحور حوله دول المنطقة، مثلما تمحورت ألمانيا الممزقة في شخص موحّدها بسمارك :

من لي ببسمركٍ يضم صفوفه

وعليه تجمع نفسها أشتاتُه

فيعيد من هذي الممالك وحدة

والعلم تخفق فوقها راياتُه

لكنه يجد في الملك عبد العزيز الرمز الذي تمحورت حوله الوحدة الوطنية في الجزيرة العربية، فيهبّ لكتابة أول ملحمة شعرية في بطلها بعنوان: أحسن القصص.

وكان خالد الفرج، يتفاعل مع أهل القطيف تفاعلاً مباشراً بالمجتمع وفعالياته، مما انعكس في شعره، فهو في كل محفل ينشد، وفي كل مجلس يتحدث، فإذا ما تأثّـر الناس لرحيل الشيخ منصور الزاير سنة 1351هـ يرثيه بقصيدة مطلعها :

قطرة الدمع من مآقي اليتيم

ماء طهر، به حنوط الكريم

وفي عام 1363هـ يكتب قصيدة أخرى في رثاء الشيخ علي الخنيزي مطلعها :

ابكوا بدمع أو نجيع

شيخاً يعز على الجميع

وفي سنة 1367هـ يغيب السيد ماجد العوّامي فيرثيه بقصيدتين، يقول مطلع الأولى:

أكليل شِعر على قبر من النور

في القلب لا في أديم الأرض محفور

ومطلع الثانية:

هل بالبكاء أو العويل

نطفي الأوار من الغليل

هذه القصائد وغيرها - كما كتب محمد رضا نصر الله - مما قاله الفرج في تلك الفترة الخصبة من حياته، لم يسجله الأديب الكويتي خالد سعود الزيد في كتابه عن خالد الفرج المطبوع سنة 1969م بالكويت.

غير أن شعراً كثيفاً تركه الفرج، بقي لدى بعض الأصدقاء والتلاميذ، والحق أن في المنطقة ممن عاصر خالداً، شعراء يفوقونه في الصياغة الشعرية والعمق الأدبي بمواصفاته الكلاسيكية، من أمثال الشيخ عبد الحميد الخطّي والشاعر عبد الرسول الجشي والشاعر البحريني إبراهيم العريّض والشاعر الكويتي فهد العسكر، إلا أن اتصال شاعرنا بالصحافة العربية وهو في القطيف جعله أكثر شهرة، إضافة إلى أن الفرج كان متفاعلاً مع الحركة الأدبية والثقافية العربية والمحليّة في عصره أكثر من غيره، فهو بعد أن يحاول نفض الغبار عن الشاعر الكبير أبو البحر جعفر الخطّي بمقالة مهمة نشرها في مجلة المنهل في أواخر الستينيات الهجرية، نجده كما يقول الشيخ حمد الجاسر يكتب تعليقات على كتاب الشيخ محمد بن بليهد «صحيح الأخبار» وينشرها في مجلة الحج، ولم ينس أن يمدّ صحف المنطقة مثل جريدة البحرين للزايد، والكويت لعبد العزيز الرشيد، بنماذج من شعره الذي يضجّ ضجيجاً خطابياً بالأحداث السياسية العربية والعالمية، مما أثّر على فنّية الشعر عنده.

غير أن من بين التراث الشعري المجهول لهذا الشاعر العربي الخليجي الكبير قصيدةً هي من القصائد القليلة، التي وصلت إلى مستوى من التعبير الفني، تجاوز كثيراً مما كتبه سابقاً من شعر ذي نبرة خطابية عالية.

ففي قصيدة (حمّادي) المجهولة، ينساب نـفسُ الشاعر شفّافاً حزيناً صادقاً وهو يغني خادمه الفقير حمادي بن مهدي بن جلال أحد الفقراء البائسين، الذي أوثقه الدين المهيض وأودعه سجن المرض الشاق حتى توفي سنة 1350هـ، واهتم لتأبينة وعني بتقريظه خالد بن محمد الفرج الكويتي رئيس بلدية القطيف وقتئذ، هكذا يقول الشيخ فرج العمران في كتاب طريف له مجهول، وفي هذا الكتاب نجد مراسلات شعرية ونثرية بين المؤلف وخالد الفرج».

ثم يختم محمد نصر الله مقاله عن الفرج، فيقول:

وأحب هنا أن تكون قصيدته عن حمّادي بين يدي قراء أدب خالد الفرج، وهي قصيدة تُذكّر بشكل خاص بقصيدة الطلاسم الشهيرة لإيليا أبي ماضي وغيرها، هي من القصائد الطويلة الرقيقة المنسابة كجدول من جداول عيون القطيف، يقول في بداياتها:

بكيتُ عليك حمّادي

كأنك بعضُ أولادي

بكاءً عينه قلبي

ودمعُ العين إنشادي

بكاءً كله صمتٌ

بلا لطمٍ وتعداد

كأن الموت يفجعني

بآبائي وأجدادي

فتغسل دمعتي حزني

وتطفىء لوعة الأحزان

آهاتي وأناتي

وإخوانٌ يعزّوني

بما يأسو جراحاتي

وإن فكرت في الماضي

وأنسى كل لوعاتي

كأن الأمر لا يعني

انتهى كلام محمد نصر الله.

واحتفى مهرجان القرين الثقافي في الكويت في دورته الثامنة عشرة عام 2012 م، بالشاعر الفرج وأُلقيت بشأنه محاضراتٌ وشهاداتٌ منها:

«لم يكن خالد الفرج مجرد شاعر ومؤرخ وباحث وقاص وكاتب مقالة، بل كان مفكراً، يحمل رؤية، ويحشد طاقاته لتحقيقها، كان يؤمن أن قوة أمته العربية تكمن في وحدتها، وأن اللغة أهم مقومات وحدة الأمة، وأن العلم والفكر المستنير هما السبيل للخروج من أسر التخلف والضعف»... «وأن نزعة الاتجاه نحو الكتابة القصصية والقصيدة لها هدف عند خالد الفرج، وذلك لرغبته في أن يصل للناس ويثبت الجوانب الإيجابية للواقع، وأن قصة منيرة تحمل شكل القصة القصيرة، ولكن نفسها روائي، وهي أول قصة قصيرة كويتية تحمل اسم امرأة»...»وأن خالد الفرج في تكوينه الثقافي المحلي والعالمي كان علامة بارزة في شعره، ولقد تأثّر بالهند خلال فترة إقامته فيها».

وعن رواد الأدب الحديث في الكويت يقول الأديب والمؤرخ الكويتي فاضل خلف «أعتبر صقر الشبيب وخالد الفرج وفهد العسكر، رواد الأدب الحديث المعاصر في الكويت، فهم شعراء فنانون يختلفون عن سابقيهم الذين أعدّهم شعراء نظاميين ذوي طابع فقهي، فصقر الشبيب مثلاً شاعر فيلسوف، وكان متأثراً بأبي العلاء المعري، أما خالد الفرج فقد أتاح له اتصاله بالحياة الأدبية خارج الكويت بأن يجدّد ويأتي بشعر عربي رصين، وفهد العسكر علم من أعلام الشعر في الكويت، شعره متميز وملكته قوية، وهؤلاء الثلاثة يشكّلون المرحلة الأولى للشعر الحديث» وقال في مناسبة أخرى «كان الشعر في الكويت قبل صقر الشبيب (1896 - 1963م) وخالد الفرج (1898 - 1954م) وفهد العسكر (1917 - 1951م) نظماً لا روح فيه، ففتّح هؤلاء الثلاثة المجدّدون أبواب الشعر الرصين لمن جاء بعدهم من الشعراء».

وبعد؛

من هذه الملامح الموجزة من سيرة شاعر الخليج رائد الملاحم الشعرية الوطنية، الذي ردّد الشباب العربي قبل ستين عاماً قصائد له شخّص فيها حال الأمة تشخيصاً لا يختلف كثيراً عن واقع اليوم، ونحن نستعيد الليلة في البال بيته الشهير:

هل في الجزيرة غيرُ شعب واحد

قد مُزّقت بيد العدا وحداتُه

وقصيدته الطويلة المعروفة «الشرق والغرب» التي ألقاها بمناسبة احتفاء النادي الأدبي في الكويت به (4 / 3 / 1346هـ - 31 / 8 / 1927 م) وجاء فيها:

الغَرْبُ قد شدَّدَ في هَجْمَتِهْ

والشَّرْقُ لاهٍ بعدُ في غَفْلَتِهْ

وكُلَّمَا جَدَّ بأعْمَالِهِ

يَسْتَسْلِمُ الشَّرْقُ إلى رَاحَتِهْ

فيجمعُ الغربِيُّ وحْدَاتِهِ

والشرق مقسوم على وحدتِهْ

وذاكَ يبني العِلْمَ في بحثِهِ

وذا يُضيعُ الوقتَ في نظرته

ومنها:

يا قومُ في أحوالنا عِبرَةٌ

فليقم النائم من رقدته

فَمَنْ تَغدَّى بأخي ضحوةً

حتماً تعشَّى بي في ليلتِهْ

وكلنا يُنشِدُ في سِرِّهِ

ما قالَهُ الشاعرُ في حِكمتِهْ

«مَنْ حُلِقتْ لِحْيةُ جارٍ لَهُ

فلْيسكبِ الماءَ على لِحيتِهْ

واليوم، وبعد ستة عقود من رحيل هذا الأديب المبدع، نستعيد صفحات من سيرته لنزداد احتراماً لسطورها، فلقد كان في زمنه مجدّداً نهضويّاً وطنيّاً ورمزاً لوحدة الخليج العربي بأكمله، عاش رافع الرأس لا متزلّفاً ولا متكسّباً، وكان في ملاحمه الشعرية واحداً من كبار شعراء الجزيرة العربية في القرن العشرين، الذين سجّلوا مسيرة هذا الوطن وتاريخ مؤسّسه، من أمثال شاعر اليمامة محمد بن عبد الله بن عثيمين والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي.

عاش خالد الفرج سنوات جميلة من عمره هنا في المنطقة الشرقية متنقّلاً بين القطيف والأحساء والدمام، وكان في القطيف بالذات يعُدّ نفسه خلالها فرداً قطيفيّاً ويعدّه أهلها واحداً منهم، وبقدر ما جسّد في شعره هموم الأمة فإنه جسّر في حياته مع الأهل الأكارم هنا نموذجاً للُحمة وطنية صادقة ينبغي أن تُحتذى بين أوساط النسيج المتنوّع في كل أنحاء الوطن.

ولئن كانت سيرته بسيطة واضحة وفيرة المراجع، غير أن تلك المراجع على تنوّعها وتعدّدها لا تشير مثلاً إلى الأسباب التي جعلته كثير التنقّل في إقامته وفي أعماله، وهو ملحظ تكرّر في العديد من جوانب حياته وإنتاجه الثقافي يستلزم متابعة البحث والتأمّل.

وإذ يلزم توجيه الشكر لمن قام على جمع تراثه وتحقيقه واهتمّ بكتابة سيرته، وبخاصة الأديب الراحل خالد سعود الزيد والباحث عبد الرحمن الشقير وأدباء الكويت والمنطقة الشرقية، فالمرجو أن يتصدّى لها اليوم من جديد من يستكمل ما نقص منها في بحث علمي معمّق، ويؤكد على تقدير هذا الوطن له في معلم في المنطقة الشرقية يليق بمكانته الرفيعة وبسجلّه الوطني المشرّف.

رحمَ الله شاعر الجزيرة الخالد خالد محمد الفرج، والتقدير الجمّ لأدباء القطيف وهم كما احتضنوه بالأمس يحتفون اليوم بذكراه، والامتنان لكل من أسهم في إقامة هذه الندوة بالتزامن مع مناسبة اليوم الوطني المجيد.

...تمت

** ** **

* من محاضرات دارة الملك عبد العزيز بمناسبة اليوم الوطني، منتدى م. جعفر الشايب بمحافظة القطيف (الثلاثاء 28/ 11/ 1435هـ - 23 / 9 / 2014 م).

- الرياض