Saturday 03/05/2014 Issue 436 السبت 4 ,رجب 1435 العدد

سطوة المصطلح

الانهيار (2)

تحدث الكثير من الكتاب عن أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق عربيا وعالميا من منطلقين رئيسيين: أولهما كان نادماً على التجربة، وعادة ما تكون مقاربته للحدث خجولة وتطمس الكثير من الحقائق الجوهرية، وثانيهما معادي للتجربة وغالبا ما يسلط حقده على النظرية ليبرئ تطبيقاته الخاطئة. ومن النادر أن تجد من حاول مقاربة هذا الحدث الأبرز في القرن العشرين بقراءة تاريخية حسب معطيات العصر دون التحسس من الاعتراف بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في التطبيق. لقد نسي الكثير من (المثقفين) أن ماركس نفسه، إبان أحداث كمونه باريس قال، إن التغيير لا يتم بهذه الطريقة، ولكنه وقف داعما ومدافعا عن تلك التجربة بالرغم من يقينه بفشلها لأنه يعلم تماما أن الصراع هو تراكم تجربة، وانه لا يكفي أن تراقب من بعيد وتقول هذا خطأ وهذا صح، إنما تدرك وتتبنى عمليا أن الخطأ هو ليس إلا مرحلة من مراحل تطور الصح وان البشرية كلها لم تصل إلى هذا المستوى من الازدهار إلا بتجاوز ما كان يفترض انه صحيح والانتقال إلى ما هو اصح منه.

تطرقنا سابقا للإخفاق الاقتصادي الذي أدى إلى سقوط الاتحاد السوفييتي السابق ونستكمل هنا ما نستطيع تلخيصه:

* ثانياً التحول الاجتماعي:

منذ اندثار القياصرة وبداية عصر النهضة، تم اكتشاف العنصر الرئيسي في التغيير، ألا وهو الجماهير الشعبية وليس الشخصيات البارزة أو (المثقفين)، ولكن الحراك الجماهيري ليس لديه الوعي الكافي لتلمس الطريق للتغيير، إنما يستقي هذا الوعي من فئة الانتلجنسيا الواقعة أيضًا تحت ظلم الفئات المتسلطة، والتي اكتشفت موقعها في الصراع وقدرتها على تنظيم الحراك العفوي ليكون فاعلا في عملية التغيير، أي أن إنشاء أحزاب كان ضرورة اجتماعية وليس فكرة مجنونة في رأس مثقف ما.

انتشرت الأحزاب بعد ذلك في أوروبا كلها، منها من قدم نفسه متبنيا لمصالح الفئات الفقيرة، وأخرى للفئات المتسلطة، وثالثة قدمت نفسها زيفا على أنها وسطية، ولكنها كانت بالضرورة اقرب إلى هذا الطرف أو ذاك إذا تجاوزنا عناوينها.

في التجربة الروسية نودي لبناء حزب من طراز جديد، أي أن الجسم الأساسي لهذا الحزب يتكون من الفقراء المسحوقين (عصب التغيير)، أما من يريد الانتساب له من فئة الانتلجنسيا – الفئة الواعية والقادرة على قيادته – يجب عليه أن ينسلخ عن تراتبيته الوسطية ويتبنى مصالح وأهداف الفئات الفقيرة ليدلها على الطريق، فليس هو من يصنع التغيير، إنما هو من يضيء الدرب للحراك الشعبي كي يستمر في عملية التغيير.

كان الحراك الجماهيري الروسي امتدادا للحراك الأوروبي، الذي حاول الرأسمال حرف اتجاهه وتصديره للخارج وصولا للقضاء عليه عبر الحرب العالمية الأولى وإنشاء المستعمرات، ولكن حزب البلاشفة نجح بالفعل في توجيه الحراك الجماهيري الروسي نحو الهدف وحقق الانجاز الذي هز العالم اجمع وانشأ سلطة من نوع جديد، هي اتحاد المجالس البلدية (السوفييتات)، وأعاد بناء روسيا بعد دمار ومذابح الحرب الأهلية، وامتنع عن الاشتراك في الحرب الاستعمارية واقر حق الشعوب في تقرير مصيرها وانشأ اتحادا طوعيا من الجمهوريات التي استقلت عن الاستعمار الروسي القيصري لينشئ دولة عظمى صنعت توازنا اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا مقابل النظام الرأسمالي ومنافسا له. بيد أن هذا الحزب تحول فيما بعد إلى حزب دولة وليس حزب ثورة، أي أنه تحول من حزب يقود الحراك الجماهيري من أجل التغيير إلى سلطة سياسية تريد أن تقود المجتمع رغما عن أنفه لبناء نظام اجتماعي لم تكتشف هي ذاتها آليات إنجازه بعد.

لقد انتصرت المركزية على الديمقراطية داخل الحزب والمجتمع وأصبحت آلية البناء هي الأوامر الحزبية، بدلا من الآليات الديالكتيكية بحيث يتم الانتقال من الأسوأ إلى الأفضل بالتدريج وليس بحرق المراحل وإقصاء المنتجين، أصحاب المصلحة في القرار. لقد تحول الحزب من مؤسس للتغيير إلى خانقا له، وأصابت العدوى المجتمع كله، ولم تنفع حملات التطهير المتكررة. عندما بدت العثرات واضحة للعيان وارتفعت الأصوات المنادية بتصحيح المسار، تم إخمادها بحجة حماية التجربة من (الانتهازية) و(التحريفية) و(الانحراف الطبقي) و(الخيانة) وما شابه ذلك من مصطلحات، فوقع الحزب في الجمود وتآكلت قدرته على مواكبة عملية التغيير ومقارعة الدسائس الرأسمالية، وخاصة الصهيونية منها، التي مررت عبر اليهود الروس والأوروبيين.

عندما حاول خروشوف إعادة البناء، كانت (الطغمة الحزبية) قوية إلى درجة اسقاطه، وعندما جاء غورباتشوف الشاب القوي كان الوقت قد أزف ولم يجد إلا حزبيين من أمثال يلتسين ولم يستطع إصلاح ما أفسده الدهر، فتصدعت التجربة وانهارت. لقد سقطت الطغمة الحزبية السابقة وأسقطت معها كل المتشدقين من الانتلجنسيا، الذين قدموا أنفسهم حماة الديار ولن تنفع محاولات إلقاء اللوم على النظرية أو المفاهيم أو المصطلحات.

* ثالثاً التحولات العالمية:

كانت ثورة أكتوبر 1917 فاتحة جديدة لشعوب الأرض كافة، وخاصة الدول النامية التي وجدت فيها ملاذا للخلاص من نير الاستعمار، فاندلعت الانتفاضات الشعبية في القارات الثلاث (آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية) واستعرت التحركات أكثر بعد انتصار الاتحاد السوفيتي على الفاشية وفشل الرأسمال في القضاء على التجربة، ولكنه (أي الرأسمال) نشر بؤر توتر في الدول النامية لتخوض نيابة عنه حروبا مجزأة عند الحاجة لقمع أي حراك فيها، كما نجح في تفتيت الحركة الوطنية وضرب اليسار باليسار بتدخل ساذج من الروس للحفاظ على الجبهات الوطنية .

حركة الشغيلة في الدول الصناعية أيضا، وجدت في ثورة أكتوبر نموذجا للإطاحة بالرأسمال، ولكن (حزب الدولة السوفيتية) حاول تنصيب نفسه قائدا للحراك العالمي ,من خلال مؤتمر الأممية، مما احدث شرخا عميقا بينه وبين الآخرين استفاد منه الرأسمال بدق إسفينه وتقطيع أوصال مكونات العملية الثورية العالمية الثلاث: منظومة أوروبا الشرقية وحركة الشغيلة في الدول الصناعية وحركة التحرر الوطني في الدول النامية.

عادل العلي - الرياض