Saturday 04/01/2014 Issue 424 السبت 3 ,ربيع الاول 1435 العدد
04/01/2014

الذاكرة القاتلة

وحدة ذاكرتنا التصديقية عادة ما تغلب على وعينا المعرفي المتجدد كما أنها غالبا ما تشرطن الترقي المعرفي للمفاهيم.

فنحن نؤمن بالمعرفة التوثيقية؛ و المعرفة التوثيقية هي المعرفة التي تكتسب جذورها الحكم المطلق بسلامة التصديق المبني على عقيدة وحدة التصور.

أقول نحن نؤمن بالمعرفة التوثيقية أكثر من المعرفة القابلة للاكتشاف ؛لأن المعرفة التوثيقية تقوم على سلامة التصديق و أحادية التصور في حين أن المعرفة القابلة للاكتشاف تنفي وجوب الحكم المطلق لسلامة التصديق وبالتالي تُلغي ما يترتيب عليها من أحادية التصور؛ فثمة أشياء دائما تٌفسد سلامة التصديق كما تعتقد المعرفة القابلة للاكتشاف مثل نسبية الحقيقة و تطور المدى الاستقصائي للمفاهيم و جاذبية العامل النهضوي و الصلاحية الحضارية.

بما يعني أن الفهم القائم على «استدامة التصديق و التصور» لا يحقق المدى الكامل للمعرفة لأنه يقيس العام بالخاص وهي آلية قياس تعمم وحدة التصور للمحمولات الفكرية للعقل الجمعي.

وقد يقول قائل و ما الضرر في تمام وحدة التصور عبر الذاكرة التصديقية؟ و الأمر يتعلق هنا بتأسيس وظيفة أصل المعرفة عند الفرد و الجماعة؛ فكلما اعتمدنا على حصر وظيفة المعرفة في ترسيخ عقيدة التصور و الذاكرة التصديقية حوّلنا المعرفة إلى مجرد «جودو» للدفاع عن عقيدة الذاكرة التصديقية،مما يهدر طاقة الإنتاج الفكري لحامل الذاكرة التصديقية.

وأصل وظيفة المعرفة «التنمية» لا «التحنيط» الذي يحول الذاكرة المعرفية إلى «مُتحف للمفاهيم «، و بذلك تُصبح تحفنّة الذاكرة التصديقية معطِلة «للتنمية المعرفية» بما تتضمن من إيجاد القدرة على تقويم المعيار المبني عليه التصديق الذي يكسر إطار التقديس للذاكرة التصديقية ، و إيجاد القابلية على التفاعل مع التعددية المتنوعة التصديقات الذي يرفع من الذاكرة التصديقية مسلّمة العقيدة ، وإيجاد مرونة الاستجابة للعامل النهضوي الذي يُرسخ دنيوية مقرر التصديق، و يدعم صلاحية سُنة النشوء و الارتقاء الحضاري.

وتلك الوظائف الرئيسة لأصل المعرفة هي التي تصنع حضارة الأمم.

سعى المُؤسِس الأول للعقل المعرفي الجمعي إلى تكوين أصل المعرفة باعتبارها مجموع من «الأحكام»؛ وبذلك فالإلزام بالثبات مقصود، و تتحرك تلك الأحكام ضمن «محتوى الانتباه» أي؛»منظومة الأوامر و النواهي» وهو المحتوى الذي يُرسخ وفق القاعدة الوجدانية التي تُشكل قيمنا و مفاهيمنا نحو الأشياء.

و بذلك فجذور البرمجة الأولية للمعرفة المعتمدة عليها الذاكرة التصديقية ليست «الجوهر الخالص» ؛إنما مجموع من «المثيرات و الاستجابات و الروابط» التي تتناسب مع محتوى الانتباه و المُستقرة عبر طوابع تمثيلية، و تلك الطوابع التمثيلية هي النماذج التي يُقاس من خلالها سلامة التطبيق التمثيلي و كيفية تنفيذ بناء القابلية المرتبطة بشرط التشابه و التوافق.

و لذلك فهي روح وحدة الذاكرة التصديقية، وهكذا تُصبح تلك الطوابع التمثيلية هي آلة القياس و معيار سلامة البرمجة.

و قد يرى البعض أن تأسيس المعرفة عبر برمجة الطوابع التمثيلية هو أمر لا يمثل أي خطر على كمال المعرفة أو فقهيتها؛لأن إدراك جوهر المعرفة لا يتم إلا من خلال صور ذلك الجوهر و هو لا يظهر لنا إلا عبر وسائط «فالجوهر لا يحضر إلا بالتمثيل» ولا يمكن تحققه إلا من خلال واقعة معرفية.

و التمثيل و الواقعة كمحتوى للبرمجة المعرفية هما وسيلتا التعبير عن «الجوهر» و ليستا إثباتا لمحتوى الجوهر، وهو ما يعني أن كل الطوابع التمثيلية و الوقائع المعرفية الدالة على الجوهر هي دوما في نطاق الممكن و المحتمل و المتخيّل قابلة للصدق و الكذب.

ومن هنا تبدأ أزمة الذاكرة التصديقية للعقل الجمعي.

فالذاكرة التصديقية تُؤسَس على أن نطاق طوابعها التمثيلية ووقائعها المعرفية ثابتة الصدق و الحقيقة سواء الأصلية أو المستنسخة ، باعتبار» الصدق للصدق»؛ أي أن ما بُني على صدق فهو صدق.

و ثبات صدق و حقيقة الطوابع التمثيلية هو بدوره مؤكِد لإثبات أصل الجوهر و مداه، وهذا الترابط بين ثابت صدق و حقيقة الطوابع التمثيلية و ثابت أصل الجوهر يكسب الذاكرة التصديقية «التقديس و التشريع».

مما يجعل الخروج على تلك الذاكرة بالتعديل أو التطوير أو التغيير هو تعدى على قدسية التصديق و تشريعاته، وهو خروج يعرض فاعله للنبذ والإقصاء و العقاب بحجة أن الذاكرة التصديقية هي حامل «لرمز هوية العقل المعرفي الجمعي».

وليس من الصحة بمكان الإدعاء الذي يعتقد أن إستراتيجية التأويل قد تحمي الذاكرة التصديقية من التطرف العقدي أو تحميها من فساد القدسنّة؛ لأن التأويل يوسع مساحة عقيدة التصور، و توسع عقيدة التصور عبر كثرة الطوابع التمثيلية لا يعادل قيمة «السماحة التعددية»، كما أنه لا ينوب عن الإضافة.

إنما على العكس فالتوسع في عقيدة التصور من خلال التأويل فيه ترسيخ لجذر التصديق باعتبار أن القابلية للاحتواء دليل على أصلية التصديق.

نعم قلت فيما سبق إن تحفنّة الذاكرة التصديقية تضر بالقابلية على التفاعل مع التعددية المتنوعة التصديقات التي يرفع من الذاكرة التصديقية مسلّمة العقيدة.

لكن القابلية الُمرِّوجة من قبل التأويل تختلف عن القابلية التي قصدت والتي ترفع مسلّمة العقيدة عن وحدة التصور المُؤسِسة للذاكرة التصديقية و تُلغي حصانتها التقديسية.

فالقابلية المُنتَجة من التأويل تعتمد غالبا على المتشابهات في كيفية بناء علاقة توسعية بين الذاكرة التصديقية و غيرها ،فالتوافق عبر التشابه هنا شرط القبول للتوسع.

بما يعني أن قبول المتشابه لا يرتقي لحكم الاختبار الحقيقي لمعرفة قدرة استجابة وحدة التصديق لتجريب تصديق مختلف أو قناعة أخرى.

إنما الاختبار الحقيقي هو القائم على القابلية بنية التغيير و الحذف و الإضافة لا التوسع و الترسيخ، والتي فشلت فيه أغلب الأمم السابقة.

لقد اثبت لنا النص المقدّس أضرار «الذاكرة التصديقية» التي أورثت الأمم» العناد والكفر»

قال الله تعالى «بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»-الشعراء 74- «إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون»-الزخرف 23- «و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ،أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون»-البقرة 170-

والآيات الكريمات السابقة ركزّت على «ممارسة فعل استنساخ عقيدة وحدة التصور المُؤسِسة للذاكرة التصديقية « سواء عبر تكرار الفعل» كذلك يفعلون» أو الاقتداء» وإنا على آثارهم مقتدون» أو الإتباع» بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا».

والاستنساخ يشمل أيضا تكرار « الطوابع التمثيلية وتكرار تحويلها إلى وقائع معرفية»، ولذلك استخدمت الآيات المفردات القابلة للتمثيل و التصور فالفعل « يفعلون» قائم محتواه على التكرار ،و التكرار لا يتم إلا من خلال إعادة الطابع التمثيلي لأن تلك الإعادة هي الضامنة لاستمرار واقعية الطابع التمثيلي، وإن كانت الآية تعطي مؤشر الفعل الأولوية كونه مؤسس عقيدة وحدة التصور، فالآية الثانية تجمع بين مؤسسي الذاكرة التصديقية ثبات الطوابع التمثيلية «آثارهم»، و ثبات أصل الجوهر و مداه «مقتدون» و الاقتداء هنا يتحول إلى «أيقونة» لجبرية الاتجاه و التوجه.

وفي الآية الثالثة تطرح «إستراتيجية الإتباع و التبعية»كمؤسس لوحدة عقيدة التصور وما تنتجه من ذاكرة تصديقية.

كما تُشير الآية إلى أن ما يُورثه الفرد من عقيدة تصور تُؤسس ذاكرته التصديقية ليست دوما دالة على «أصل جوهر الحقيقة و مفاهيمها» ولذلك وصفت الآية مصدر عقيدة وحدة التصور بعدم التعقل و عدم الهداية والاهتداء.

وبذلك فوحدة عقيدة التصور المؤسِسة للذاكرة التصديقية تنشأ من خلال «ثلاث قوى» قوة التكرار و قوة الاقتداء و قوة الإتباع ، ولذلك أصبحت تلك القوى فيما بعد بمساندة ضلعي المعقولية «التكرار و التزمين المفتوح»؛ «دليل يقين» فالتكرار رافع للتوهم و الخطأ و الشذوذ وهو ما يؤكد صلاحية الذاكرة التصديقية.

كما أنها «حجة» لرفض الإدعاء ببطلان تلك الذاكرة؛ فالتزمين المفتوح مثله مثل التكرار رافع لتوهم البطلان ومُؤكِد لسلامة الحق.

وإذا كانت الكثرة تغلب الشجاعة فالكثرة هاهنا تصنع من الباطل صدقا و حقا.

و لذلك فكم من ذاكرة تصديقية قتلت شعوبها و كم من ذاكرة تصديقية قادت المؤمنين بها إلى الجحيم.

- جدة sehama71@gmail.com