Saturday 05/04/2014 Issue 433 السبت 5 ,جمادى الثانية 1435 العدد

عشتارُ الفوضى: نقد الثقافة- الأم

(1)

لكَ أن ترى وسط الفوضى التي تمتدّ في الدول العربية (وعياً عشتاريّاً) يتمدّد باتّجاه الإنسان، وإن كسره الربيع العربي لكنّه شتّت أيّ أمل كاذب لحياة تأتي من دعاة الماضي والموتى، فما خلّفه من واقع دمويّ وتقسيميّ يدرج ضمن إفرازات الثقافة العربيّة- الأم: (الموروث الديني- الشعبي الذي أُعدّ على عُجالة في فترة انهيار الدولة العثمانية ليكون هويّة بديلة وعاصمة من تيه محتمل، وما قدّمته من تحصينات دينيّة- سياسيّة لأهل السياسة)، التي بقيت معصومة عن النقد على مستوى الواقع وليس الفكر، وتراكمت نتائجها الكارثيّة في مراحل عدة.

وصحيحٌ أنّ كلّ واقع يحمل فوضاه في مزاحمة الاستقرار، ويكون وجوده محرّضاً لتطوير ما يخدم الواقع، لكنّها عادة ما تكون فوضى جزئيّة- نسبيّة ومحسوبة سياسيّاً ضمن إدارة مخاطر الأزمات، وليست فوضى كليّة تتخبّط في دول المنطقة وتهدّد فيها السلم الأهلي، ولا تقدّم ضمانة لمستقبل أكثر حريّة وأمنا للإنسان العربي. لكنّها في المقابل فوضى ذات واقع له قابليّة إعادة قراءة تاريخه المعاصر، فكلّ ثقافة- أمّ حالة طوطميّة تُوحي لأتباعها بالهلاك إذا ما ابتعدوا عنها، وهو إيحاء لم يعد حاضراً بالقوّة ذاتها، بل بدأ وعيٌ مرصودٌ مع تحوّلات الواقع العربي من ضيق الطوطم إلى سعة العولم، مفاده: أنّ الهلاكَ منبعُه الارتباط الوثيق والأعمى بتلك الثقافة، وأن الخروج من الانغلاق إلى حالة: (ما بعد الثقافة) تسمح بنقد الثقافة- الطوطم هو المعوّل عليه في أيّ إصلاح للتوازن الوجودي لسكّان دول المنطقة لإعادة بناء الدول أو إصلاحها على أسس غير عرقيّة أو دينيّة، خاصّة، وأنّها ثقافة قد فُصّلت لغاية انفصال العربي عن العثماني، وغابت بعد ذلك العلّة وبقيت التوليفة كثقافة معصومة غايتها تمجيد العرب وهم في حالة من الضعف لأجل الوجود والهوية؛ وصحيح أنّنا لسنا على أعتاب علمنة داخليّة بالمطلق ولا حداثة علميّة تخضع الواقع وظواهره واحتياجاته لقوانين التجربة والشك والمادة، لكنّ العلمانيّة لم تعد بُعبعاً أو سبباً للتكفير أو تهمة للتغريب، كما لم يعد الخطاب الديني- السياسي قادراً على تبرير تكفير الدولة أمام أتباعه، وبدا إمّا يراجع خطابه ويمارس تورية الانتقال من التطرّف إلى الاعتدال الاضطراري، أو أنه يتنازل عن خطابه لما يهدّد وجوده من (مكارثيّة) لا يملك تبرئة نفسه وخطابه الإقصائي من مسؤولية نشوئها.

(2)

يستوعب واقع ما بعد الربيع العربي عبر شرائح عدة من عموم المواطنين مخاطر الخلط بين الدين والسياسة بعد نتائج حكم الإسلام- السياسي وفشلهم في أكثر من بلد على وحدة وسلم أهله، وتزداد يوماً بعد يوم نسب المطالبين والواعيين بضرورة فصل رجال الدين وتأويلاتهم عن السياسة دون عصبيّة وتكفير، ورفع التحصين الديني للسياسة، وهكذا واقع لم يكن في بدايات القرن العشرين، وشيء في غيابه يفسّر عجز النهضة في إنجاز خروج ثقافي يحوّل مرجعيّات العرب من مرجعيّات ماضويّة طوطميّة إلى مرجعيّات ماديّة- عولميّة:

أوّلاً: لعدم قابلية الواقع العربي الأميّ في هذا التحوّل.

وثانياً: لضرورات فرضتها واقع الانفصال العربي عن العثماني والبحث عن الهُويّة عن طريق العودة إلى الماضي، ممّا جعله ملاذاً من تيه الانفصال؛ لذلك فإنّ خطاب علي عبدالرازق وطه حسين وغيرهم، كان خطاباً معزولاً عن حال عموم المواطنين/ الأمّيين، المتأثرين بهاجس المصير والوجود والهوية وهي مسائل عالجها ما أسمّيه خطاب الثقافة- الأم المؤلّف على عجل من التراث، الذي تشكّل سريعاً وانتشر بين عموم العرب لأنه خطاب وجداني لا يحتاج إلى وعي، فلم يكونوا في وارد تقبّل تفكيكه أو حتى فهمه على أكثرية الأميّة، لذلك فإنّ أيّ خطاب تجديد وانفتاح ينتقد الثقافة-الأم يكون منفصلاً عن الواقع إذا كان الواقع نفسه ما زال مربوطاً بالأم، ولم يكن واقعاً كحالة بينيّة/ ما بعد ثقافيّة مؤهّلة لهذا التجديد والانفتاح؛ وهذا يفسّر الضرورة الواقعيّة للتحالفات الدينية- السياسيّة التي فرضتها ماديّات الواقع في مرحلة تأسيس الدولة، بينما قوّة الضرورة الواقعيّة وقانون الواقع وتوسّع مكوّنات الدولة تدفع باتّجاه تغيّر شكل التحالف أو توسعته ليضمّ مكوّنات أخرى ما كانت ناشئة قبل ذلك في تحالف مصالح وجودية هو أسس العقد الاجتماعي.

(3)

كلّ تفكيك لخطاب ديني- سياسي يقوم على استيعاب نشأة الخطاب ويفكّكه من الداخل، ويفكّك ارتباط السياسة به ومسؤولياتها في نشأته واستغلاله فإنّ هكذا تفكيك يُفضي إلى خطاب تعدّدي استيعابي، يحمّل الأطراف المسؤولة مسؤولية هذا الخطاب، ويفتح أبواباً عدة وتعدّدية، وأيّما تفكيك يحمّل مكوّن الديني-السياسي بمفرده مسؤولية نشأته وتخبّطاته وأوهامه فإنّه قد يتورّط بنشوء مكارثيّة إقصائيّة لا تسلم من التشفّي في رؤية ضيّقة ترى اليوم ولا ترى الغد، ترى نفسها ولا ترى كلّ شركائها في الوطن، وظنّها الطوباوي إنهاء الصراع- الجدلي ضمن شروط تفرضها على عجل، وبالتالي تعجز عن تكوين خطاب متعدّد هي أولى بصياغته من خصومها، لأنّ أساس الدعوة المدنية قائمة على التعدّدية ومنع وجود قوّة لدى أيّ فصيل أحادي يسعى إلى اختزال مكونات الدولة كلّها في فصيله، وليست الدعوة المدنية قائمة على إقصاء الأحاديين بل إبعادهم عن مصدر وقوّة الإقصاء بحيث لا يمارسون إقصاء الآخرين، وهذا فرق مهم، ويخشى من نشوء خطاب (تطهيري) تحت تأثير تنامي لغة ردّة الفعل.

- إقصاءٌ بإقصاء، كيف يتعافى الوطن إذاً؟!

إن مالت الكفّة لهؤلاء رأيتهم إقصائيّين، وعلى عجل يريدون فرض الشروط التقسيميّة، وبالكاد يفرضون على (المهزوم) تبعيّته بوصفه تابعاً لا أصيلا، وإن مالت الكفّة لخصومهم رأيتهم لا يتردّدون يمارسون ما كانوا يزعمونه أساس الظلم.

(3)

لماذا لم ينجح الإصلاح ولم تُجفّف منابع الإرهاب بعد أحداث سبتمبر/ أيلول؟

هذا سؤال ضروري على عاتق الدولة، والباحثين السياسيّين والاجتماعيّين أيضاً؛ نعرف أنّ السياسة تتحمّل مسؤوليّة ذلك، ولكنّنا لا يجب أن نتجاهل غياب الضرورة الواقعيّة؛ هل كان الواقع قابلاً لنقد ثقافة- الأم كما اليوم؟ فأيّ غياب للحالة البينية فإنّ إمكانيّة انتقال الممكن من حدود الواقع وإدخاله في محتملات الواقع يكاد يكون أمراً متعثّراً قبل الشروع به، لأنّ مفردات الانتقال غير متوفّرة على أرض الواقع.

بينما واقع اليوم يتقبّل هذا الانتقال، ولم يعد نقد الثقافة- الأم خيالاً بل صار جزءاً من الواقع، فأي خطاب يُبنى على واقع فوضويّ ومتعدّد ومنفتح، فإنّ أهدافه صغرت أو كبرت قابلة للتحقّق كونها من محتملات الواقع، وأيّ خطاب فوق الواقع فإنّ أهدافه كذلك تبقى فوق الواقع، فلا تتحقّق أهدافه مهما صغرت لخلوها من الضرورة الواقعية.

هكذا نفهم لماذا نجح العربي في خطاب التحرّر من الاحتلال الأوروبي، ذلك أنّ خطاب التحرّر ليس مفصولا عن واقعه، بينما خطاب الحريّة والعلم والماديّة والدولة مفاهيم مفصولة عن الواقع حينذاك، لاعتصام العربي بطوطم ثقافيّ بديل عن تلاشي المركز العثماني، فلم يكن في وارده أن ينتقد ما يظنّه روحه الآمن وحضنه الوالدة.

أزعم أنّ الواقع الراهن مهيّأ أكثر من أي وقت مضى لتشريعات جديدة للدولة تحصّنها وشعبها مدنيّاً، وترفع الدين من عبث العابثين به، وتضعه في مكانه المقدّس بوصفه يخصّ الفرد، وحقله الفرد، وفضاؤه الفرد، ولا ينبغي لأحد أن يعبث به أو يضع له اشتراطات ومقاسات وتقسيمات ليستعبد الدين وأتباعه، فأصل في الدين أنّه يحرّر الإنسان من عبادة الإنسان، وأصلٌ في الدين أنّ لا أحد يمثّله.

(4)

لا يحسبنّ أحد أنّه منتصرٌ في هذا الواقع المعقّد والمتداخل المصالح بين مكوّنات الداخل وارتباطاتنا بالخارج، لا أحد منتصر بين سكّان الوطن، مهما اختلفنا.

) إنّ انتصارَكَ على شركائك في الوطن هزيمةٌ..

) انتبه... لا تخدعنّكَ دَورةُ الفلَك.

وصحيحٌ أنّ بقاءَ الحركات الدينية- السياسية في الحقل السياسي يُهدّد استقلال الدولة وينازعها، لكنّ التورّط بالمكارثيّة والإقصائيّة الاجتماعيّة لن يُزيل مخاطر انفجار السلم الأهلي، لأنّ الإصلاح لا تُؤتى ثماره بعيداً عن ضرورة الاستيعاب، لذلك فإنّ بلوغ الواقع إلى ذروته في انفصال (الديني- السياسي) عن كاهل الدولة -وهو مآل نراهن عليه وإن لم يكن أوانه- لا ينبغي أن يدرج ضمن عمليات الربح والخسارة/النصر والهزيمة، فليس في المسألة غالب ولا مغلوب. ولهذا نخشى على الخطاب المدني- الإصلاحي اختزال مطالب الإصلاح وحقوق الحريّات بمسألة مخاطر حركات الديني- السياسي أيّا كانت مخاطرها، فهذا اختزال يخلّ بأيّ مشروع يضمن التوازن الوجودي لمكوّنات الدولة؛ وهو امتحان مصيريّ لأصحاب الخطاب السياثقافي بين مواجهة السياسة بوصفها مسؤولة وخاضعة للقوانين الماديّة، وبين تحرير الإنسان العربي من رجال الدين- السياسي وأوهامهم في احتلال عقول الناس لأجل غاياتهم ومصالحهم الفئويّة.

ياسر حجازي - جدة