Saturday 05/04/2014 Issue 433 السبت 5 ,جمادى الثانية 1435 العدد

عندما يكون الاكتئاب ثمناً للنجاح! (2-2)

نختتم اليوم ترجمة هذا المقال المهم الذي نُشر في مجلة (سيكولوجي تودي) (علم النفس اليوم) Psychology Today الأمريكية بعنوان: (جَناح الاكتئاب) بقلم: هارا إستروف مارانو.. والمقال يلخص قصة أحد رؤساء الشركات الأمريكية العملاقة مع الاكتئاب الانتحاري.

المتفوقون في أعمالهم قد يتعرضون للاكتئاب، لأن شخصيتهم واحترامهم لذاتهم يرتكز دائماً على الإنجازات المادية، وذلك في منتهى الخطورة.. الذي ينقصهم هو شعور داخلي بالأهمية، يقول جون: (في بعض الأحيان، نحن نساوي بين قيمتنا بوصفنا بشراً وبين إنجازاتنا المادية بصورة مطلقة.. ولكن هذا يجعلك تشعر بقيمتك بناءً على مدى نجاحك في صفقتك الأخيرة فقط)، ويضيف: (الاكتئاب يأتي من إنكار الألم.. أنا تعلمت أن أنكر الألم.. ألمي وآلامَ الآخرين).. بعد مقتل أخته، ضربه الحزن في الأعماق، واستهلكته الرغبة في الانتقام.. ولكنه استطاع، بعد معاناة قاسية، التغلب على هذا الشعور بواسطة القراءات الدينية والتأمل الروحي.

الوصول للقمة

الذين يتمحورون حول إنجازات العمل فقط، يكونون ماهرين في جحد الألم والمشاعر السلبية.. إنهم - في الغالب - يعتقدون أن نجاحهم يرتكز على مقدرتهم في إبعاد أنفسهم عن مشاعرهم.. خلافاً للمتوقع، الوصولُ إلى القمة لا يَهَبُ - تلقائياً - شعوراً صحياً بالرضا عن الذات.. وبخدعة سيكولوجية، تستطيع القمة - في الواقع - أن تجعل الرابح يشعر كما لو كان خاسراً.. يقول تيرنس ريل (وهو مؤلف كتاب مهم عن كيفية التغلب على الاكتئاب): (عندما تصل إلى القمة، فإن مرجعية المقارنة لديك تختلف.. أنت ستقارن نفسك مع مدير تنفيذي لشركة أكبر من شركتك، وستحس دائماً أن هناك في مجموعة منافسيك شخصاً أكثر شباباً وجرأةً وسرعةً).. ويضيف ريل: (الحلم الأمريكي، بأن الثروة تحوّل دائماً النجاح إلى سعادة، ينتهي بخيبة أمل قاسية.. ذاتك هي ذاتك.. إنها لا تتغير، ولكنها - فقط - تنتقل إلى بيئة أفضل).

أهمية احترام وتقدير الذات

يقول الدكتور ستيفن بيرغلاس (المتخصص في علم النفس): (مشاعر الاكتئاب هي علامات تحذيرية من أن الشخص لم يُكافأ بما يتساوى واحترامَه ذاتَه، وأن عليه أن يجد طريقة أفضل للحصول على تقدير الذات.. ولكن الرجال الناجحين، في الغالب، لا يتجاوبون مع العلامات الأوَّلية للألم.. إنهم يواصلون العمل بقوة لتهدئة الألم إلى أن يصلوا إلى درجة الإنهاك الكامل.. وهذا يؤدي إلى تفاقم درجة الألم).

أخيراً.. انفجر القلق والذنب اللذان أخفاهما فيليب - بمشقة - كقنبلة مدوِّية.. يقول فيليب: (لقد كنت أشعر بالذنب من كل شيء).. يقول الدكتور جون ألن (المتخصص في علم النفس في عيادة (منينجر) إن (درجة إنهاك المديرين التنفيذيين مذهلة حقاً.. عند وصولهم إلى العيادة يكونون في حالة سيئة للغاية).. لقد كان مفتاح علاج اكتئاب فيليب هو الاهتمام بالأشخاص الآخرين.. بدأ هذا الاهتمام في عيادة (منينجر) مع خمسة مرضى، واحدة من المرضى كانت في منتصف الثلاثينيات، وتدعى جينا. يقول فيليب: (كانت لديها قوة بصيرة، واستطاعت أن تعرفني أفضل مما عرفتها).. ويضيف فيليب، لقد قالت لي: (أنت ستنجو.. وإذا حدث هذا، فعليك بمساعدة الآخرين.. أريدك أن تذكر ذلك جيداً، لأنني لن أنجو).. يواصل فيليب: (لم تَعنِ كلماتها لي شيئاً في ذلك الوقت، لأنني لم أكن أتوقع أنني سأبقى على قيد الحياة).. ولكن، بعد سنة تقريباً، انتحرت جينا، عندما جعلت سيارتها تشتغل في الكراج، واختنقت بدخان العادم.

قوة وتأثير (البوح)

قصة جينا كانت حاضرة دائماً في جناح الاكتئاب، حيث اكتشف فيليب وجون أن الناس لا يتواصلون بفاعلية عن طريق استعراض منجزاتهم مع بعضهم البعض، ولكن بالبوح عن نقاط ضعفهم.. لقد اكتشفا، بعد وقتٍ، أن البوح هو أهم سلاح لتغيير حياتهما.

لقد تواصل فيليب مع زوجته وابنته وابنه بفاعلية بعد انقطاع، ووجد الكثير من الحب.. لقد كان محظوظاً بصورة غير طبيعية، لأن زوجته شيريل عانت سنواتٍ طويلةً من الوَحْدة القاتلة دونَ أن تغضب أو يخفق زواجهما.

يقول الطبيب النفسي فرانك بيتمان: (الزوجة والأولاد ينصرفون عن الزوج عندما لا يهتم بهم.. الرجال المشغولون يعوضون غيابهم بدفع المال.. وعندما يشعرون بأن عائلاتهم بعيدة عنهم، فإنهم يُبغضون دفع المال، ويحاولون السيطرة على الأمور المنزلية.. وهكذا تصبح الزوجة مستاءةً أكثرَ فأكثر، والزوج يزداد ثراءً أكثرَ فأكثر).. ويضيف بيتمان: (وعندما يريد الزوج أن يتواصل ويبوح بأحاسيسه، لا تكون الزوجة مستعدة لذلك.. إذا لم يكن لدى الرجل زوجة أو شخص آخر يعرفه، بوصفه إنساناً في المقام الأول، فإنه يصبح وحيداً بالفعل ويزداد اكتئابه تفاقماً).. ويؤكد بيتمان: (الأمر الذي يسهم في علاج شخص من الاكتئاب هو الشعور بأنه ليس وحده.. التجارب العملية أثبتت أن العلاقات الإنسانية العميقة تكون حالتَنا الطبيعية، وفي غيابها، لا يعمل العقل ولا الجسم بصورة طبيعية.. الانعزال يؤدي للاكتئاب في كل الثَّدْييَّات).

يقول فيليب: (لم أتواصل مع ابنتي وابني كما يجب عندما كانوا صغاراً.. لقد كنت أجتمع ووزيرَ النفط الروسي ووزيرَ النفط الصيني.. لقد كنت في بكين وموسكو وسنغافورة.. لا تشعر أنك تضحي بحياتك الشخصية.. هذا ما كان عليه وضعي.. لقد بذلتُ جهداً لأغيِّر حياتي.. بدأت أهتم بأطفالي متأخراً، وهم في آخر سنوات المراهقة. ولحسن الحظ، أعجبهم ذلك رغم التأخير).

وبمساعدة طبيب نفسي متميز من هيوستن، استطاع فيليب التوصل إلى أن لديه مشاعرَ أيضاً، وأن بعضها ليست جيدة.. ومع الوقت، تعلم أن يتعرف إلى هذه المشاعر السيئة، ويحاول محاربتها بدلاً من دفنها بمواصلة العمل المرهق.. يقول فيليب: (إن رؤساء الشركات يعرفون كل الحيل! إنهم يذهبون إلى الأطباء النفسيين في السادسة والنصف صباحاً، ويدفعون المال مقابل الاستشارات، ثم يصلون المكتب مع بداية العمل تقريباً في تمام السابعة).

كان فيليب لا يزال يُعتبر قيادياً بارزاً في مجال الأعمال، حينما بدأت الغُمَّةُ في الانقشاع بعد أكثر من عامين من خروجه من عيادة (منينجر).. عندها، طلب منه صديقٌ أن يساعده في تأسيس فريق كرة قدم بهيوستن.

أهمية الاستمتاع برؤية وتأمُّل الجمال

في ذلك الوقت، أصبح فيليب قادراً على رؤية الجمال من حوله، كما في غروب الشمس مثلاً.. استطاع الاستمتاع بلعبة الغولف.. يتذكر فيليب: (لو أخذتُ، منذ عشر سنوات، نصفَ يوم عطلةً للعب الغولف، لم أكن لأشعر بالسعادة والاستمتاع.. كنت في الواقع أود أن أكون في المكتب).

في 1999، طلب منه صديق آخر أن يلقي محاضرة عن خبرته مع الاكتئاب في اجتماع المنظمة العالمية لرؤساء الشركات.. وبالرغم من شعور فيليب بعدم الارتياح والعصبية إزاء هذه الدعوة، فقد وافق، لأن كلمات جينا كانت تسكن قلبه.. حضر عدد كبير من رؤساء الشركات - ومنهم كثير من أصدقائه - المحاضرة وصفقوا له كثيراً وبحرارة.

ومباشرةً بعد المحاضرة تقريباً، بدأ هاتف فيليب يستقبل مكالمات سريّة لا حصر لها من رؤساء شركات يعانون الحزن، أو من زوجاتهم القلقات عليهم.. المكالمات من الزوجات كانت هي الغالبة، لأن الاكتئاب نادراً ما يتعرف عليه الرجال من أصحاب الوظائف العليا بالذات.. الزوجات يستطعن التعرف، بكل وضوح، إلى مظاهر الاكتئاب، مثل: الحزن والعزلة والقلق.

ومنذ محاضرته هذه في 1999، خصص فيليب يوماً على الأقل في الأسبوع للاجتماع مع رؤساء الشركات الذين يعانون من الاكتئاب.. يقوم فيليب بإخبارهم عن قصته، ويزودهم بمعلومات مفيدة جمعها بنفسه أثناء المرض.. ولكن أهم ما يمنحه فيليب لهم هو الأمل في أنهم - كما حدث معه - سوف يتجاوزون المحنة، ويخرجون من الاكتئاب.

فيليب بورغويرز هو اليوم نائب رئيس مجلس إدارة فريق (هيوستن تكسانز) لكرة القدم، ونائب رئيس مجلس إدارة عيادة (منينجر) للأمراض النفسية ويملك حصة من أسهمها.. بينما يدير جون سيج منظمة (جُسورٌ إلى الحياة) التي أسسها في 1998 لكي تجمع بين المجرمين المسجونين والضحايا أو أسرهم، وذلك حتى يروا عواقب أفعالهم.

اهتمام فيليب بالصحة النفسية ليس مقتصراً على الأغنياء فقط، إنه يخصص ثلث وقته من أجل تطوير خدمات الصحة النفسية في ولاية تكساس عبر لوبي خاص، أنشأه للتأثير على المجلس التشريعي المحلي للولاية.. كما يقوم فيليب بدور رئيس لجنة جمع التبرعات لمنظمة (جُسورٌ إلى الحياة).

ولكن ولع فيليب الأساس هو مساعدة رؤساء الشركات، لأن كثيراً منهم - كما يؤكد - يعانون من آلام نفسية شديدة، ولأنه يفهمهم جيداً.. ولكن الأهم، لأنه يعتقد أن هذه كانت وصية جينا له فيما يجب أن يعمله بقية حياته.

ملحق للمقال

(إعداد د. حمد العيسى)

يدفعون ثمناً هائلاً...

لماذا الرؤساء الناجحون معرضون بشدة لخطر الاكتئاب؟

(1) ضغوط كثيرة في العمل

الرؤساء تحاصرهم ضغوطهم الداخلية لتحقيق إنجازات، وبالإضافة إلى ذلك، هناك ضغوط من اللقب نفسه أيضاً. يقول المؤلف تيرنس ريل: (أغلب الرؤساء يعرفون أنهم يقودون سفينة بها آلاف الموظفين وآلاف المساهمين، وأنهم يجب أن يتخذوا قرارات تؤثر في مستقبل الكثير من الناس).. أيضاً، هناك حقيقةُ سوق المال.. بغض النظر عن التذبذب اليومي لأسعار الأسهم، يقول فيليب بورغويرز: (كلّ ربع سنة، تحصل على تقرير مخيف: تقديرات دخلك.. الضغط قاسٍ للعمل بصورة ربع سنوية بدلاً من كل ثلاث أو أربع سنوات).

(2) الرؤساء يواجهون عزلة قاسية

يقول الدكتور لورنس ستيبل: (الرؤساء لا يستطيعون نزع أقنعتهم، على الأقل داخل شركاتهم.. هذا الأمر، في حد ذاته، يمكن أن يصيب بعض الناس بالاكتئاب.. كلما كان مركزك عالياً.. قَيَّدك مركزُك أكثر).. ويؤكد بورغويرز أن الرؤساء لا يمكن أن يلوموا أحداً سوى أنفسهم لمثل هذه العزلة، (لأنها طريقة الحياة الأمريكية.. نحن جعلناها في أمريكا عملاً مُتوحِشاً، عندما دمجنا سلطة كبير الإداريين التنفيذيين ورئيس مجلس الإدارة معاً).

(3) النجاح يؤدي للفتور

دوائر الدماغ التي تشكّل أمزجتنا تولِّد مشاعر إيجابيّة عندما نقترب من تحقيق هدف.. وكما يلاحظ الدكتور ستيفن بيرغلاس: (النجاح ينتهي)، ولهذا.. (أنت لم تعد في مرحلة الإنجاز.. عندما تكون منشغلاً بإنجاز هدف، يستجيب جسمك بإفراز مادة بيوكيميائية تخلق شعوراً بالنشاط والخفة وتجعلك تقاوم الألم).. ولكن ما إن يتحقق (النجاح) حتى تغدو الحياة أكثر فتوراً، لأنها تصبح مرتبطة بالسؤال التالي: (هل ستخسره؟)، بعد أن كان السؤال: (هل ستحصل عليه؟) كما يقول تيرنس ريل.. ويؤكد بيرغلاس: (كونك في القمة يجعلك مديراً تنفيذياً متحفِّظاً وكارهاً المخاطرة).

ترجمة وتقديم/ د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com