Saturday 06/09/2014 Issue 444 السبت 11 ,ذو القعدة 1435 العدد
06/09/2014

مع (عنترة).. بين أريجِ (العِشْق) وغُبارِ (المَعْركة) «1»

يُفتِّش الباحث في التراث الشعري عن نصوصٍ تضيء فروسية العرب واعتزازهم بالشجاعة فلا يجد أجمل من تراث (عنترة)، ويُنقِّب الدارس عن أجمل معاني الحبِّ وأبهى حلل الهيام فلا يواجه أروع من حروف (عنترة).. (عنترة بن شداد العبسي) الشاعر العربيُّ الجاهليُّ الفارسُ الشجاعُ الذي ظلَّ إلى يومنا هذا مضرب المثل في الإقدام والجرأة، وظلَّت قصته مع ابنة عمه (عبلة) من أروع قصص الحبِّ في تاريخ أدبنا العربي وأشهر حكاياته التي حرص (عنترة) على توثيقها في كثيرٍ من نصوصه، غير أنَّ معلَّقته الشهيرة تتبوَّأ الصدارة في هذا السياق، تلك المعلقة التي تعبق بروح الجاهلية الصافية، وتكشف لنا حروفها عن رائعةٍ من روائعه التي يفتخر فيها بنفسه وأخلاقه وشجاعته وعفَّته، متغزلاً بِمحبوبته التي استحوذتْ على فِكْره، فخلَّدها في شِعْره.

يقول (عنترة):

هل غادر الشعراء من مُتَرَدَّمِ

أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ

يا دار (عبلة) بالجَوَاءِ تكلَّمي

وعِمي صباحاً دار (عبلة) واسلمي

حُييتَ من طللٍ تقادم عهدُهُ

أقوى وأقفرَ بعد (أمِّ الهيثم)

هلا سألتِ الخيل يا ابنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

ومدجَّجٍ كره الكُماة نِزالَهُ

لا مُمعِنٍ هرباً ولا مُستسلِمِ

جادت له كفي بعاجل طعنة

بمُثقَّفٍ صَدْقِ الكُعُوب مُقَوَّم

فشككتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابَهُ

ليس الكريمُ على القنا بمحرَّمِ

ولقد حفظتُ وَصَاةَ عمي بالضحى

إذ تقلِصُ الشفتانِ عن وَضحِ الفمِ

يفتتح (عنترة) هذه المعلقة الخالدة بذكر الديار والأطلال، وهي عادة الشعراء الجاهليين في استهلال قصائدهم، بيد أن الاستفهام المشوق الذي تصدَّر هذا النص جعل استهلاله متميزا، فشاعرنا يستفهم مقرراً: أن الشعراء لم يتركوا مقالاً لقائل، فأي غرض لم يسلكوه، وأي معنى لم يطرقوه! ثم يتبع ذلك باستفهام آخر يكشف فيه عن تغير الدارعليه، وأنَّ الزمان قد تكفَّل بتبديل أحوالها وآثارها حتى جعلته لا يعرفها إلا توهماً أنها الدارُ التي كان يعهد.

وينتقل (عنترة) بعد ذلك إلى خطاب هذه الدار التي يُذكِّره كلُّ شبرٍ فيها بمحبوبته، ولذلك هو يضيفها إليها فيسميها (دارَ عبلة)، ويطلب منها الكلامَ والحديث لعلها تثير أشجانَه وتعيد ذكرياتِه، وهي أمنياتٌ وذكرياتٌ لا يمكن أن يُحسَّ بها إلا من عاشها بأدقِّ تفاصيلها، فآبت بذكرياته وأوقدت جذوة حنينه، لكنَّ شاعرنا لم يصغِ إلى ردٍّ ولم يستمع إلى جوابٍ من هذه الدار، ومع هذا فهو يلقي إليها التحية ويدعو لها بالسلامة، مُكرِّراً إضافتها إلى (عبلة)؛ ليُشعر الجميع بأنَّ الذي شغف قلبه حقا ليس هذه الدار، بل مَن سكنها، ولما لم يسمع (عنترة) ردَّاً من هذه الدار عرف حينها أنَّ الخطاب من طرفٍ واحد؛ لذا فهو لم ينتظر جواباً أكثر من ذلك، بل استمرَّ في إلقاء تحيةٍ أخرى عليها واصفاً إياها بأنها طللٌ قد تقادم عهده، وبَعُد زمنه بالسكَّان الذين نزلوه، وخلا منهم وأقفر من بعدهم، خاصةً مِن بعد محبوبته (أمِّ الهيثم)، وهي كنية (عبلةَ) التي كانت تمثِّل لديه كلَّ سكان تلك الديار، فلما رحلتْ فكأنَّ الكلَّ قد رحل، ولم يبقَ حينها غيرُ رسمٍ وطلل.

وينتقل شاعرنا بعد ذلك إلى مشهدٍ جديدٍ، فيتغيَّر الغرض ويتبدَّل الخطاب، فبعد أن كان يبكي على الأطلال ويُعبِّر عن شوقه وحنينه إلى محبوبته التي أقفرتْ الديار منها ها هو الآن يوجِّه الخطاب إليها قاصداً الافتخار وإظهارَ الشجاعةِ والفروسيةِ التي طالما عُرف بها (عنترةُ بنُ شدَّاد) حتى أصبح مضربَ المثل فيهما، وها هو يدعوها إلى سؤال الخيل، ويحثُّها على الاستفسار منها عن صفاته في الحرب، وعن أفعاله في القتال، إن كانت تجهل ذلك، أو لم يصلها خبرٌ من فارسٍ أو مقاتل، فهو معروفٌ بصفتين في تلك المواقف الفاصلة والمشاهد الرهيبة، وكلُّ من حضر المعركة أو راقبها من بعيد سيعرِفُهُما، أمَّا الأولى فهي الإقدامُ والجرأةُ وعدمُ التردد، وهذا هو غِشيان الوغى، أمَّا الثانية فهي العفافُ عند توزيع الغنائم، والاستغناءُ عنها وعدمُ الاهتمام بها؛ لأنه لا يقاتل لأجلها ولا يحارب لينال شيئاً منها، إنما ليدافعَ عن قبيلته، ويحفظَ شرفه وعزته، ويُبقيَ ذكرَهُ الجميلَ بعد موته.

ويستمرُّ شاعرنا المتألق في الافتخار وإظهار الشجاعة والفروسية لابنة عمه ناقلاً عدسته التصويرية إلى مشاهد المعركة بشكلٍ أقربَ من ذي قبل، كي تعرف (عبلة) حجم شجاعتهِ الفائقةِ ومدى إقدامِهِ الاستثنائي في أمثال هذه المواقف العصيبة، فهذا أحد الفرسان الشجعان الذي تدجَّج بالسلاح، واكتمل عتاده وتمَّ استعداده، حتى إنَّ الأبطال الآخرين الذين يشاركون في هذه المعركة يكرهون نزاله ويخشون مقابلته، لأنه لا يمكن أن يهرب أو يستسلم، وبالتالي لم يبقَ إلا احتمالٌ أخيرٌ لنواياه، وهو القتال حتى الموت... إنَّ هذا الفارس الذي وصفتُهُ لكِ، وتُصغينَ الآن إلى شجاعته وإقدامه.. قد واجهتُهُ في المعركة والتقيتُ به وجهاً لوجه، فما ظنُّكِ بالنتيجة؟

لقد جادتْ له يدي بطعنةٍ عاجلة، وأكرمتْه كفِّي بإصابةٍ سريعة، وذلك عبر رمحٍ مُصلَّحٍ مُقوَّمٍ قويٍّ صَلْب، فمزَّقتُ به ثيابه ودرعه وقلبه، فلم أترك له فرصةً للحياة، ولا مجالاً للنجاة، فمات كما يموت الأبطال الكرام على رؤوس الرماح. وإذا كان (عنترة) يفعل ذلك مع هذا البطل الشجاع الذي يكره الكماة نزاله لأنه لا يمكن أن يهرب أو يستسلم فما ظنك بغيره من بقية الأبطال الذين لا تصل شجاعتُهم ولا يبلغ إقدامُهم شجاعةَ هذا البطل وإقدامَه.

وفي البيت الأخير من هذا المشهد يكشف (عنترة) عن سرٍّ من أسرار شجاعته وإقدامه وعدم تردُّده في خوض غمار هذه المواقف، لقد كان عمُّه يوصيه دوماً بذلك، ويدعوه إلى الهجوم في الموطن الضنك والموقف الصعب، ذلك الموقف وذلك المشهد الذي تعجز فيه الشفتان عن التعبير ويتوقَّف فيه اللسان عن الكلام، وتكون وجوه الفرسان فيه عابسةً كالحة، لا مجال فيه لحديثٍ ولا ابتسام، وإنما هو القتل والقتال، ومواجهة الأبطال، بالأرماح والنبال، وأنى لمثل هذه المواقف أن يفكر فيها الإنسان في شيءٍ آخر، لكنَّ بطلَنا المغوار وشاعرَنا الجبَّاركان استثناءً من هذه القاعدة، وهو الاستثناء الذي سنعرف تفاصيله في المشهد الثاني من هذه النص البديع. إذن لقد كانت هذه الوصية من أبيك يا (عبلة) سبباً من أسباب شجاعتي وإقدامي في مثل هذه المواقف، فقد حفظتُها تنظيرا، وفعلتُها تطبيقا، فحصل ما استمعتِ له، وحدث ما أصغيتِ إليه، وما دمتُ أحفظ هذه الوصية.. فهذا هو شأني دائما في الحروب والمعارك.

لقد تجلَّتْ في هذا المشهد الرائع من نصِّ شاعرنا المتألق (عنترة بن شداد) أجمل مشاهد الحنين والاشتياق وأروع مواقف الفروسية والشجاعة.. وقد بقي لـ(عنترة) مشهدٌ آخر من مشاهد الحماسة والإقدام الذي يعبق بأريج الحب والاشتياق.. أما كيف ذلك؟ فهو ما سيكشف عنه فارسنا العاشق في المشهد القادم إن شاء الله تعالى.

- الرياض Omar1401@gmail.com