Saturday 06/12/2014 Issue 454 السبت 14 ,صفر 1436 العدد

تساقط الضحايا أم ضحايا التساقط

قراءة في رواية السامري

ينبش محمد النجيمي في روايته «السامري» أوجاع الحاضر وأوجاع المستقبل، وكأنه لا ينبش قبر الثقافة فحسب بل ينبش قبر المجتمع السادر في الحياة التي أضحت بلا أفق وبلا حلم هي حياة لا حل لها إلا السفر إلى الضفة التي تنحر فيها الأحلام رحمة بها كما تقتل الأحصنة الأصيلة حينما تمتلئ بالجراح المميتة ليس من أعدائها فحسب بل من أقرب المقربين إليها...

في هذه الرواية لا فرق بين القاتل وبين المقتول هما واحد تتعدد الشخصيات وهي في النهاية واحد لا فرق.. لا فرق هي أزمة وجود وأزمة مجتمع وأزمة مستقبل تجسدها هذه الرواية. هي رواية صادمة للوعي إلى الدرجة التي تحاول أن تكشف البشاعة المغروسة في الانفصام العميق الذي يلف مجتمع الرواية، وما الوصف الصادم الذي استخدمه الكاتب في بعض مقاطعه إلا نوع من الاستفزاز المتعمد للقارئ ليعيد مساءلة نفسه مرات عديدة.

تدور الرواية في الطائف وتحاول الرواية أن ترسم فضاء الطائف الواقعي عند سفح غزوان، ليكون جزءا من مشهد الرواية كما تحاول الرواية أن تضع (صومعة) القاتل في مكان يطل على الشرق ولكن للأسف فالشمس لا تشرق على تلك الصومعة لأن الجبل يسد عليها الشروق. يقوم القاتل الذي يعمل تربويا في إحدى المدارس بقتل أصدقائه المثقفين واحدا واحدا ليريحهم من حياتهم، يبدأ بقتل ناصر الصقران المترجم ثم يقتل خالد الراعي الشاعر الذي سجن بسبب قصيدة، وينتقل إلى قتل زهرة التي ليست بمثقفة ولكن قتلها له علاقة ما بموقف قيمي ثقافي سيوسولوجي، بيد أن الإستراتيجية التي عمد إليها الكاتب في تناوب الحكي بين عدة رواة تجعل شخصية زهرة هي نفسها شخصية القاتل والمقتول هي داخل هذه الشخصيات الواحدة بصيغة المتعدد، فهي ذات علاقة بالمقتولين وذات علاقة بالقاتل وهي جزء منهم في الحقيقة.. جزء من البحث عن (زهرة) قد تكون حلماً وقد تكون حرية في صورة إِنسان.. زهرة التي تمثل العلاقة المحرمة التي تقول وهي ذات التعليم المحدود عن انصراف خالد الراعي (أحد شخصيات الرواية المقتولين) لمؤسسة الزواج: « اختار المؤسسة ووأد مؤسستنا وهي لا تزال حلما ينشد الشرعية «، هنا زهرة أشبه بكائن تجريدي يشير إلى رمز أكثر منها كائن واقعي

ثم ينتقل مسلسل القتل إلى المقتول الرابع نعمان الذي تاب من حياة العربدة وتحول إلى إمام مسجد لكنه لم يستطع ترك بعض عاداته السابقة، وقد أحرقه القاتل في سيارته ونعمان هو جزء من المثقف في علاقته بالديني وبالمجتمع القاسي،

وفي النهاية يفاجئ القارئ أن القاتل لم يكن إلا المحقق في القضية الذي اسمه محمد وكانت عملية القتل جميعها هي كتابة نص متخيل.. هذا النص المتخيل تحول إلى واقع ينوي فيه المحقق قتل محمد سمييه (لاحظ استعمال المحقق لمفردة « سميي « أي مشاركي في التسمية إنها تعطي بعدا يتعلق بقتل الاسم وقتل الهوية وقتل كل شيء إن المحقق مقتول في الوقت نفسه أو مجنون في الوقت نفسه وهو لا يدري)، الذي صار مجنوناً ويخبرنا أنه هو القاتل وهو كاتب النص، وأنه قد أعد كل شيء لقتل محمد في النهاية، ولكن هل قتل محمداً في مشهد الخاتمة المسرحي الذي أعده بكل عناية؟

لا تخبرنا الرواية بشيء لأنه مقتول سلفاً حتى وإن لم يقتل، وليت الرواية وقفت عند هذا الحد الوجودي الضخم ولكنها تستمر معلنة جنون محمد الذي أعد له محقق الرواية بكل دقة. وليظهر في النهاية وضاح الشخصية الغائبة الحاضرة ويحاول أن يستفز محمداً وهو في مستشفى الصحة النفسية بكلام منمق « على ثرى هذه الأرض يا صديقي، على وجه طرقاتها الوعرة وعندما تتقاطع مع القلوب التي تحولت إلى صحاري كن أول الكافرين، تعلم أن تبض الصبر واحذر عندما تصافح عيناك صورهم أو تقع على ملامحهم. الصحراء غول يا سيدي وساكنوها أشباح.

قلت له ذلك علني استدرجه للحديث. كررت عليه الكلام مراراً لكن صاحبي بعيد تركه في المستشفى الشهير بعلاج أمراض الجنون (شهار)، ويترك المستشفى وضاح بكل برود وهو يردد مقطعا من قصيدة لقاسم حداد

«ساعة الأصدقاء انتهت ؟!

فليكن

لم يزل زيت قنديلك المنتخب

يستفز الغضب

فليكن

يشكُّ ويفتح أسئلة في يقين الذهب»

حقيقة أن هذه الرواية تسجل انتهاك حياة الإِنسان حينما يحدد له نص مسبق ويراقب عند كل صغيرة وكبيرة حتى لا يخرج عن النص المراقب.. هنا تفسد الحياة ويفسد أجمل ما فيها وهو الصداقة، فلا صداقة تحت النصوص المحددة مسبقاً... كل العلاقات لا قيمة لها. الحياة برمتها تصبح لا تطاق ونهايتها هو التخلص منها بحرية الموت. والمفارقة الأكبر أن كاتب النص المحقق يتماهى مع المثقف ومع الصداقة ومع الحياة ومع الناس ومع الحاضر ومع المستقبل ولا يريد أن يتنفس الناس إلا من رأس قلمه. وهنا أن تنتهي الحياة أفضل من أن تستمر فالحياة ليست هكذا، والنصوص ليست هكذا يقول المحقق: « قتلتهم جميعاً.. أقصد شفيتهم «.

استطاعت هذه الرواية أن تدخلنا في عمق معاناة الإِنسان ومعاناة المثقف ومعاناة الحياة وتوغل بشدة في وصف عمق حفرة القبر الكبير أو النص الكبير الذي يكتبه كاتب واحد هو الصواب وهو الحقيقة والآخرون لا قيمة لهم، كما وضعت مشهدا مؤلماً للحياة في ظل الرقابة على كل شيء. هذه الرواية كل شخصياتها المتعدد بصيغة الواحد هم ضحية واحدة دون استنثاء بما فيهم المحقق الكاتب ذاته.

وقد وفق كاتب الرواية في أكثر من جانب فعتبة الجملة الأولى مفزعة وتقبض على تلابيب العقل والعاطفة ليكمل القارئ الرواية إلى النهاية « أحب القتل، لا لذاته، وإنما من أجل راحة الضحايا «!!

كما وفق الكاتب في جعل الرواي السردي متعدداً مرة للمحقق ومرة للضحايا ومرة للراوي الرئيس الذي كتب له المحقق ومرة لوضاح بل إنه يحير القارئ متعمدا ليجعله يبحث عن المتحدث كما فعل ذلك مع شخصية خالد الراعي في المقطع الرابع، وكما فعل ذلك مع زهرة في المقطع السادس.

استطاع رسم الشخصيات بوضوح وبعمق سواء في مقدمة الرواية أم في أثنائها. شخصية واحدة تبدو باهتة ولا دور لها وهي شخصية وضاح رغم اجتلابه آخر الرواية. ولذا هو فعلا شخصية أشبه بالأسطورة (وضاح وشلته)، ومن الانزياحات الشعرية الدافقة الحديث حول الليل والقصيدة الممنوعة التي ذكرت بنصها كاملاً وقد حاول الكاتب إدخال الراوي في القصيدة ببعض التعليقات التي لا يُدرى هل هي من القصيدة أو انتهاك روائي / سردي للشعر.

في هذه الرواية هنالك ما أسميه التشابك النصوصي بين الرواية والقصة القصيرة والشعر إنها الرواية المتشابكة، كانت الرواية ستصبح أكثر عمقا لوشعفت هذا التشابك النصوصي بالتشابك السردي الذي يقوم على الانكسارات في التتابع والانكسارات في الزمن، وعلى الرغم من ذلك فهي رواية عميقة ولا يستطيع أن يكتبها أي كاتب؛ إِذْ هي تحتاج إلى كاتب خاص ومثقف عميق من نمط محمد النجيمي، ومما يؤخذ على استعمال الكاتب أسلوب لتعدد الرواي قصر حجم الرواية ومثل هذا التعدد يكون عادة في الروايات الضخمة لتعطي وجهات نظر أكثر تفصيلا، ومع ذلك فقد أجاد الكاتب بمهارة قل نظيرها التخطيط لهذا العمل الروائي المتقن والمركز والعميق، كما أجاد توظيف بعض أدوات الرواية الجديدة من تداخل في الأجناس، وتعدد في الأبطال، وتوظيف للوصف، وتنويع وتداخل في السرد كما أنه قام بمهارة باستعمال التضمين الانعكاسي في آخر النص بصورة ارتدادية تدعو المروي له إلى استعادة أحداث الرواية كاملة، فالرواية ليست لمحمد الضحية والقاتل كما يتوهم القارئ بل هي رواية لمحمد المحقق، ثم إنها مجرد نص تخييلي يتحول إلى واقع من الجنون وواقع من الضحايا المتساقطة.

د. جمعان عبدالكريم - الباحة