Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد
07/06/2014

سرد الذات الروائية

ثمة قراءة جديدة لأدب الرواية ولسيناريو الفيلم. تتمثَّل هذه القراءة بما أطلق عليه سرد الذات الروائية، ليصبح اليوم منهجاً نقدياً في قراءة الأدب والفن.

أنا هنا أتحدث عن الرواية بمعناها المنهجي وليس أي رواية وعن الفيلم سيمفوني البناء وليس أي فيلم.

انتبه النقاد أخيراً إلى أن المؤلف الأديب والمؤلف الفنان السينمائي لا يحققون أفكارهم عبر المنجز فحسب، بل هم يفرشون ذواتهم على مساحة الرواية ومساحة الفيلم السينمائي ومساحة المسرحية.

الكاتب والأديب لا يتخذ من شخصية إيجابية صورة لذاته ولأفكاره كي يُقال إن شخصية كذا هي شخصية الكاتب، بل إن كل شخوص وأحداث الرواية هي الكاتب والمؤلف والسينمائي. وهذا حدث على مر التاريخ من الأعمال الكلاسيكية العظيمة وحتى روايات العصر وأفلام العصر الحديث دون أن يمنهج هذا الواقع نقدياً وأكاديمياً.

إن قول «شيلر» على سبيل المثال في مسرحية «اللصوص» على لسان لص «اللصوص الصغار يدخلون السجن واللصوص الكبار يدخلون التاريخ» هي فكرة المؤلف وفلسفته وهي مقولته وليست مقولة اللص. لكنه يبحث عن الشخصية المناسبة التي يمكن من خلالها أن يمرر مثل هذا القول. فالشخوص السلبية والإيجابية. الشخوص الرئيسية والثانوية. الراوية في الرواية والتداعي فيها، كلها هي فلسفة الذات يفرشها الكاتب والمؤلف السينمائي ويسردها على مساحة الرواية أو المسرحية أو مساحة الفيلم. وحتى في روايات ومسرحيات وأفلام السيرة الذاتية فإن كل شخصيات العمل الروائي هي ملفات بنيوية لسرد الذات الروائية.

بدأ هذا المنهج يدخل عالم النقد، النقد المنهجي والنقد الأكاديمي والنقد الموضوعي. فبدأت حملة تقييمية انسحبت على مناهج الدراسة في الأكاديميات بأقسامها الأدبية والنقدية في دراسة الكاتب. بدأ البحث أين هو الكاتب والمؤلف في الشخصية الفلانية وأين هو في الحدث وأين هو في الحوار على لسان جميع الشخوص ليتضح أن كل الكتّاب كانوا يفرشون ذواتهم على مساحة العمل الأدبي وكل الفنانين يفرشون ذواتهم على مساحة الفيلم. ولا يضعون فلسفتهم على لسان شخصية واحدة. فأحياناً يضع الكاتب فلسفته الذاتية على لسان مجرم أو قاتل أو مجنون مثل ما يضع فلسفته من خلال شخصية أو شخوص إيجابية.

من هذا المنطلق بدأت قراءات جديدة وتقييم جديد للأعمال الروائية والمسرحية وسيناريوهات الأفلام السينمائية لمعرفة أفكار الكاتب وموقفه من الحياة والمجتمع والسلطة والفلسفة.

تنسي وليامز في مسرحية «عربة اللذة» التي شاهدناها أيضاً على شاشة السينما هي مثال آخر يقربنا من سرد الذات الروائية، أن السيدة الخريفية العمر في المسرحية تفشل في استمالة شاب جميل وعندما تدعوه إلى منزلها تطلب منه أن يأخذ المفتاح منها ويفتح باب منزلها، حيث تقول مع نفسها «عندما أمر في مثل هكذا موقف تصبح أصابعي كلها إبهامات» بمعنى لا تستطيع أن تمسك بأصابعها الأشياء. هي حالة لا شك أن تنسي وليامز وهو المرهف يمر بها دائماً ولا يريد أن يطلقها على بطل يمثله فيضعها على لسان امرأة خريفية تحتاج إلى الآخر قد يطرد عنها سحابة الملل السوداء فتفشل في استمالته فيتعذر عليها حتى مسك الأشياء، إذ تشعر بالخدر وتشعر كأن كل أصابعها صارت إبهامات لا تمكنها حتى من الإمساك بالمفتاح لفتح باب المنزل. هذه المعاناة التي اختصرها الكاتب الأمريكي «تنسي وليامز» في مسرحية عربة اللذة هي جزء من الذات المرهفة للكاتب تفيدنا ليس في قراءة شخصية المرأة الخريفية، بل أيضاً في قراءة الكاتب ودراسة شخصيته. فمعاناة المرأة الخريفية هي معاناة الكاتب في أن أصابعه في لحظات الفشل والإخفاق لا تستطيع مسك الأشياء فعبر عنها بذلك التعبير الجميل «عندما أمر في مثل هكذا حالة فإن أصابعي كلها تتحول إلى إبهامات»

قراءة العمل الأدبي اليوم ووفق هذا المنهج النقدي الذي أطلقوا عليه «سرد الذات الروائية» يقودنا علمياً ومنهجياً إلى دراسة عباقرة الأدب والفكر والفن ومعرفة نهجهم الفلسفي والفكري ومعرفة معاناتهم الحقيقية بعمق في الحياة. فالرواية اليوم ووفق هذا المنهج النقدي سوف لن نتعرّف عليها كقيمة أدبية أو فنية فحسب، بل هي تعرفنا على المؤلف والكاتب وقراءة شخصيته ودراستها بعمق.

إفتراضا آخر، إن كاتباً ما يريد أن يلعن الوطن والتدهور الحاصل فيه فيخلق في روايته شخصية شعبية عابثة ويضع على لسانه كل ما لا يستطيع قوله بحق الوطن والمجتمع. دراسة هذه الشخصية في الرواية في البحث النقدي الكلاسيكي يتركز فقط على قدرة الكاتب في التقاط الشخصيات الشعبية من المجتمع وإدخالها ضمن البنية الروائية، ولكن اليوم ووفق منهج سرد الذات الروائية تجعلنا ندرك أن ما قيل على لسان تلك الشخصية الشعبية هو موقف للكاتب أسقطه على تلك الشعبية فيتداخل العام بالخص ويصار إلى دراسة شخصية الكاتب وأفكاره وموقفه من الحياة والمجتمع.

دراسة منهج «سرد الذات الروائية» يساعدنا كثيراً في فهم الأعمال الأدبية، لأننا في الوقت الذي نتفاعل فيه مع شخوص الرواية في الرواية والفيلم فإننا نعرج على كاتبها ونتعرف على أفكاره في علاقة الجدل بين المؤلف والمجتمع وبين المجتمع والمؤلف.

- هولندا k.h.sununu@gmail.com