Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد

ليست .. مرثية!

لمَ اختارتْ فتاةُ الحكايةِ الملحَ ليكونَ معادلاً لحبها لأبيها؟ ربما لأنها أيقنتْ ثباتَه وكشفتْ سريعًا تلوّن السكر...هذا كلامٌ قالته بيبلونة سابقًا فيما يشبه «الحكمة»، ولكن ما الحكمة من ترديد ما قيل قبلاً؟!!

كيف سيكونُ شكلُ حياتي دونَ أبي سوى شريطٍ مكرورٍ يعيدُ استحضارَ ما قيل وما حدث، كأنني محبوسةٌ في كرةٍ من زجاجٍ يرجّها طفلٌ بينَ يديْه، يخضّها ليرى حركة العربةِ التي تجرها الأيائلِ، وانهمارَ الرقاقات البيضاء فيضحك، ويبكي كلما عاودها السكون!

عَبَر أبي متوشحًا رداءَ النور، هل تركنا في العتمةِ أم في الظل؟ لا أظن ذلك يهمّ كثيرًا ما دمنا ما نزال نقف على الرصيفِ الآخرِ ولا يدَ تمتدّ لتصافحَه أو لتتوكّأَ عليه. كانت جدتي – والدته- تتهيّأ بحماسٍ لاستقباله وهي تمد البُسُطَ في حلمِ تلك الغريبةِ، لم تجدِ نفعًا كل حيلِ أمي في قلب ثوبِها لتغيّر الحلم أو الواقع، ما الفرقُ بينهما؟ ليس الواقعُ الذي نحياه سوى كابوسٍ ثقيلٍ ليس بالمستطاع الاستيقاظ منه والنفثُ عنِ اليسارِ ثلاثًا!

كنتُ موقنةً أنّ أبي – شأن كلِ الآباءِ- سيكون دومًا موجودًا من أجلنا،حتى في سفرِه أو في سفري أعرف أنه عائدٌ وأني عائدةٌ، أبي الذي اختارَ لي اسمًا نادرًا في العائلة، أكادُ أن أكونَ الوحيدة التي تحمله، كأنه كان يتوسّم بي فرادةً من نوعٍ ما، أبي الذي لن يرى سوريا التي كان يثق بعودتها، وكنت أرتاح لإيمانه بتحررها وأشعر بالحماس حين يقول إنه سيعود في اليوم التالي لاستقلالها، ثم ينظر إلى أمتعتنا ويقول بإحباطٍ: أنا لا أحب الأمتعة الكثيرة في السفر!!

يطلب مني الجميع أن أكونَ قويةً، أنا التي ظنني كثيرون شجاعةً، شجاعة؟! خطر لي أني مثل فارسٍ يرتدي حلةً من حديدٍ ويحمل رمحًا وينتظر ساعةَ الصفر! أنا من الداخل أنا أكثر هشاشةً من بسكويتة شاي، ومن الخارج أبدو مثل كومةٍ من الكونكريت، رغم أنه يفترض به ألا يكونَ كومةً بل شكلاً منتظمًا، غير أني بلا أبي أثق أني لست سوى كائنٍ غيرِ متجانسٍ ولست أكثر من كومة! وحدَه أبي كان يعرفُ أنني طفلةٌ جبانةٌ تحاول التغلبَ على خوفها من الإبرةِ حين ترى نظرةَ اطمئنانٍ في عينيه الرماديتين!

أنا لا أحاول رثاءَ أبي في هذه الكلماتِ القليلةِ، هذا تأبينٌ للعالم الذي فقد لونَه في غيابِ أبي..

«نحب أن نجلس قرب الأموات

نتأملهم

نتشبث بالغائبين،

الحاضرون نهملهم..

على الأصابع؛

نحسب أيامنا الباقية

لكن مهما طالت

تبدو قليلة

في عيوننا البخيلة!»

إميلي ديكنسون

بثينة الإبراهيم - القاهرة