Saturday 08/02/2014 Issue 427 السبت 8 ,ربيع الثاني 1435 العدد

أسئلة في الوجود العربيّ المتعدّد

(1)

إسرائيلُ دولة عدوٍّ ومجرمة، بالنسبة لي ولأكثريّة العرب وآخرين حول العالم، وحكوماتها تستحق محاكمات على جرائمها المرتكبة بحقّ الفلسطينيين-السكّان الأصليين؛ لكن ذلك لا يجب أن يمنعنا من الخروج من قمقم رؤيتنا الضيّقة إلى وجهات نظر مختلفة: (إسرائيليّة وعالميّة)، فالرؤية الضيّقة المتوارثة أفضت إلى نتائج كوارثيّة في الواقع: فلا هي أنهت الاحتلال الإسرائيليّ بالقوّة، ولا هي ساندت في مفاوضات واقعيّة تنهي الصراع؛ فليس من المستحيل إنهاء الصراع وبناء جسور تحوّل العدو إلى جار على أساس مصالح الجوار المشتركة، فما بين الأوروبيين والعرب من دماء يفوق ما سفك بين (العربان والعبران) و/أو بين (اليهود والمسلمين) على مرور تاريخ الصراع الوجودي والفكري بينهما، والواقع أنّنا اليوم نقيم علاقات متينة وقويّة مع دول أوروبا.

وحينما أقول (دولة عدو) فإنّما العداوة محلّها النظام وأعماله الإرهابيّة ومؤيّدوه، ومحلّها كذلك عنصريّتنا في المكوّن الأحادي والإصرار عليه؛ والعداوة لا تكون على دلالة الإطلاق الزمني، إنّما على دلالة الراهن، فإنّ تغيّر الراهن تغيّر الموصوف بالعداء إلى شيء آخر تبعاً للتغيّرات، وما هو طاغ الآن ومسوّق له من تاريخٍ واقعيّ لا يؤهّل أن يكون مسانداً في تغيير الراهن، وهو وجهة نظر الحكومات العسكرية والشمولية التي اقتضت مصلحتها أن تشيطن إسرائيل (وهي مجرمة بطبيعة الحال)، ولكنّ شتّان بين محاكمة الإجرام والعمل على إزالته، وبين استغلاله كشمّاعة لتبرير الاستبداد وعجز التنمية وتعطيل التداوليّة و/أو الإصلاحات السياسية وإباحة حقوق الإنسان. هكذا تختلف دلالة (إسرائيل عدو) بين أكثريات العرب وبين حكوماتهم.

(2)

ليس بدعاً القول: إن الذات العربيّة-الإسلاميّة مأزومة برؤية أحاديّة ومسلّمات لا تستند إلى ماديّة الواقع، وهو ما يجعلها ذاتاً خارجة عن الزمن، ذاتاً ترى نفسها: (مركز الإنسان، متعالية، فوق الجميع)، وليس في حساباتها وزناً لمتطلّبات الوجود المادي وشروطه، وهي نظرة نُلبسها على العدو الإسرائيلي بينما هي أصل في تفكيرنا ورؤيتنا للعالم من حولنا؛ ومن البداهة: أنّ التفريط في الوجود المادي والخروج عن الزمن لا ينتج قوّة وجود حضوريّة، ولا يشكّل دافعاً للنمو والتقدّم.

(3)

في كتابة وجوده المادي الواقعي: اعتمد العربيّ عند سقوط الدولة العثمانية اعتباطاً واقعيّاً على منظومة مفاهيم: منها ما هو مصدّق عليه في الواقع/الحقائق الماديّة، وأخرى حقائق تاريخيّة لم تختبر صلاحيتها، إنّما أحضرت لأجل صناعة واقع يناسب تلك الحقائق التاريخيّة الميّتة، أو المفترضة؛ وتأتي مأزوميّته المتوارثة حتى الراهن: (أ) أنّه خلط بين الوقائع الماديّة وما نتج عنها، (ب) وبين الافتراضات التاريخيّة وما يتوقّعه منها؛ فذهب يثبّت الواقع المادي ويرفع عنه طبيعته المتحرّكة الزمنيّة، وقام برفع افتراضاته التاريخيّة إلى المسلّمات وقدّسها حتى أفرزت التطرّف الديني. وفي مقدّمة الخلط بين الواقع والافتراض: كانت إحالة وضع تقسيم البلاد العربيّة إلى الاستعمار الأجنبي فقط، وهم بذلك يفترضون أنّ البلاد العربيّة كانت ذات وحدة ما في العهد العثماني؟ وهكذا خلط لا يصمد أمام المتن التاريخي، حينما نستوعب الفارق بين المركز والكيانات التابعة؛ إنّ الإجابات التي صنعتها الحكومات العسكريّة والشموليّة على أسئلة الوجود المادي في بدايات القرن، وآلت إلى الراهن هي جزءٌ من مأزوميّة العربي، ولم يعد كافياً الاكتفاء بمصادرنا في قراءة التاريخ والواقع. انظرْ: ماذا فعلت بنا هذه الرؤية الأحاديّة للذات والآخر في جدليات وجود العربي؟ هويّته، علاقته مع السلطة، علاقته بالعربي-المسيحي، علاقته بالعربي-اليهودي علاقته مع دول الجيران: تركيا، إيران، إسرائيل. (نحن هنا لا نتبنّا أن اليهودية عرق بل ديانة، كما نتبنّا أن العرب مصطلح وليس عرقاً).

وأنتَ لا تجد فهماً قويماً: لماذا يقبل العربي-الإسلامي بوجود دولة عربيّة-مسيحيّة على مستوى رئاسة الجمهوريّة، ولا يتقبّل أو يناقش فكرة وجود دولة عربية-يهوديّة تحت أيّ شكل من أشكالها رغم أنّها واقعٌ ماديٌّ، وإن محى العرب اسمها من خرائطهم الأطلسية؟! اعلم أنّه سؤالٌ مستفزٌّ (حتى على كاتبه) لكنّي أرى ضرورة بحثه: فإذا كان العربيّ-الإسلامي في قبوله لدولة عربية ذات رئاسة مارونيّة قد تجاوز عنصر الدين في تأسيس دولة، فإنّ في ذلك إيجابيّة لا نراها في دول عربية أخرى، ولا نأخذها في عين الاعتبار عند تعاملنا مع إسرائيل منذ قيامها: (والذي سبق العديد من استقلال الدول العربيّة)، فلقد بُني الصراع على أساس ديني ولم يقم على بطلانية مع فعله هؤلاء الهاربون من أوروبا ومن يساندونهم. هل الفارق بين الحالتين: أنّ فكرة الدولة اللبنانيّة وتنفيذها تشكّلا في فضاء عثماني على أساس الحماية الأوروبيّة في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك قبل أن تولد الرؤية العربيّة في تأسيس الدولة على أساس الدين والعرق، فيكون لبنان عمليّاً أقدم دولة عربيّة بمفاهيم الدولة المعاصرة من حيث تأسيسه على مكوّناتها: (على الرغم من المحاصصة الطائفيّة التي تحول دون تحويل الفكرة المدنية إلى واقعيّة كاملة)، بينما قامت إسرائيل بعد تكوّن الرؤية العربيّة للدولة القائمة على أساس العرق والدين؟!

(4)

كيف نفهم دعوة يهودية دولة إسرائيل؟ أليس على أساس أنّها دولة علمانيّة وديمقراطيّة، على الرغم من رؤساء حكوماتها العسكريين. والقول: إنّ غاية الدعوة يتمثّل في (تهجير فلسطيني سنة 1948-وإغلاق ملف اللاجئين وحق العودة) هو قول صحيح، لكنّه لا يجب أن يغفلنا عن المسألة اليهوديّة في البلاد العربيّة بين أواخر العهد العثماني وبدايات الاستعمار الأجنبي؛ (من بدأ التهجير العرقي-الديني؟ من حرّم على أتباع الديانة اليهوديّة أداء طقوسهم وصلواتهم؟)، والحكاية ليست: (تهجير بتهجير) على الرغم من امتلاء العهد القديم بالمماثلة التشريعيّة في العقوبات: (عين بعين)، الحكاية أنّ هناك سوابق تاريخّية لطوائف يهوديّة بعائلاتها اقتلعت وهجّرت، فهل نأخذ بالحسبان هذه المعادلة حينما نتحدّث عن يهوديّة الدولة العبريّة؟! كما أنّ المكوّن الرئيس للدول العربيّة يعتمد الدين والعرق، وهو ما يضغط واقعياً على إسرائيل باتّجاه اعتمد المزاعم عينها التي نعتمدها.

هل كان خطأ وجوديّاً تهجير الطوائف اليهوديّة ممّا أفقد العربي من قيمة التوازن المادي فلم يعد أميناً عليه؟ وهل تستند دعوة إسرائيل ليهودية دولتها على هذا الخطأ أم هي دعوة محض عنصرية؟ وكيف لادّعاءات اسرائيل عن عنصرية العرب أن تصمد إن لم نمارس التهجير والإقصاء؟ علينا أن نعترف عبر تصحيح الخطأ: أنّنا نمارس عنصريّة ضدّ أتباع الديانة اليهوديّة، ونصفهم في كتبنا بأشنع الأوصاف، ونقدّس ذواتنا عبر شيطنتهم؛ والحقّ أنّنا لسنا ملائكة كما نصدّر لأنفسنا منذ نشأة إسرائيل؛ هكذا نجد أنفسنا مرّة أخرى أمام ضرورة إعادة كتابة التاريخ لأجل تحرير الواقع.

(5)

أسّست عوامل: (فترة القوميّات، سقوط الدولة العثمانية، نشوء القومية التركية، الاستعمار، تيه المكوّن الإسلامي والمكوّن العربي، التهجير العرقي-اليهودي، إحياء اللغة العربية) لمفهومٍ في بناء الدولة يقوم على أسس عرقية-دينية ولا يقوم على أساس المواطنة، وفقاً لتوازن الوجودي المادي، ولذلك تجد مفهوم المواطنة دون الواقع العربي: (انظر إلى دساتير العرب)، بل أزعم أنّ العقود الاجتماعيّة بشكلها القائم في الدول العربيّة أصل في مخاطر التقسيم والتفتيت، لأنّ روابط الدم والدين لم تعد حصانة لقوّة ووحدة الدول؛ انظر جنوب السودان، شمال العراق، والبقيّة تأتي ما لم يتمّ إصلاح العقد الاجتماعي على أساس التوازن المادي الوجودي بين مكوّناته وليس على أساس الأكثريّات الاجتماعيّة: عرقا أو مذهبا.

هل العرب قومٌ أم قوميّات/عرق أم أعراق؟ هذا مبحث ضروريٌ، علينا إعادة بحثه بحريّة، كي نخرج من هذه القوميّة المقيّدة. أزعم أنّ العربَ مصطلحٌ يعبّر عن (قوميّات) ولا يعبّر عن قوميّة بعينها، ولعلّه يتشابه مع الأوروبي، الآسيوي، الأفريقي، أو الأمريكي كأفضل تصوّر لقوميّات عدّة منصهرة في دولة قائمة على التوازن المادي الوجودي لمكوّناتها.

لقد أدرك المتطرّف اليهوديّ مأزق الهوية والقوميّة في زمن القوميات، لذلك لم يلتفت لها، لأنّ اليهوديّة غير قائمة على العرق، ولا يمكن إثباتها، ولذلك لجأ إلى المكوّن الأعلى: الديانة. بينما بقي العربيّ المدني (على المجاز وشيوع المسمّى) مأزوم بالمسمّى لاستحالة وجوده ماديّاً على دلالة الدم/العرق، فلا يكون العربي واحداً إلاّ في مكوّنه الأعلى وهذا استناد الإسلام السياسي، ولا يكون العربي المدني عربياً إلاّ متعدّداً، وأصلٌ في هذا المأزق نظنّه سبباً في فشل القوميّة العربيّة لأنها تستند على ما هو غير موجود –ماديّاً- وتقصي من الجغرافيّة السياسيّة كلّ المكوّنات التي لا تتطابق مع تعريفاتها وأوهامها، بينما يكون العربي بمدلول مكوّنه الأعلى لدى الإسلام السياسي أكثر حضوراً، هكذا أثّر المأزق في ابتعادنا عن الدولة المدنيّة المواطنية، وخلق مسائل وجوديّة عديدة عرقيّة وطوائفيّة، وعلى رأسها: مسألة الأكراد والأقليات العرقية بالنسبة لوهميّة القومية، وحقوق المعتقد بالنسبة لمفهوم الإسلام السياسي؛ وهي مسائل لم تزل معلّقة بانتظار ويخشى تحت تأثيرتها وقوع المزيد من التقسيم، إذا استمرّت مشاريع الإصلاح بعيدة عن معالجتها على مستوى الدساتير والحكومات التنفيذيّة والسلطات القضائيّة.

ياسر حجازي - جدّة