Saturday 08/03/2014 Issue 431 السبت 7 ,جمادى الاولى 1435 العدد
08/03/2014

ماذا يقول رؤساء تحرير الصحف اليوم؟

ليس بكثرة الاطلاع ولا بكثرة الكتابة وليس بقوة الحضور يكون العلم مفعماً بما الناس بحاجة إليه من هذا العلم وذاك.

فقد تجد عالماً واسع الاطلاع، وتجد كاتباً دائم الكتابة، يثيرها بجرأة وثقة، وقد تجد مثقفاً لافتاً للنظر، بل قد تجد مسؤولاً فاعلاً دائم الحضور والنشاط ومحاولة العطاء والشعور بالمسؤولية.. قد تجد هؤلاء لكن الأثر لهم يسير سيراً عجولاً، يسير سيراً يميل إلى طابع تلهف النتيجة سراعاً سراعاً.

وهم مع هذا يخالون أنهم يبذلون ويعطون ومجتهدون وحريصون، بينما الواقع العقلي للحال لهم أنهم ليسوا إلا كمن يحرث في البحر، ويرقم على الماء، ويخط في الهواء. ومع أن جوهم صاخب بالمتابعة بل بالمتابعات والجد والجرأة لكنهم يشتكون من (فراغ)، لا يدرون سببه. لقد درست كثيراً من نفسيات كتّاب زوايا ومقالات وأطروحات ثقافية ونقدية واجتماعية، فهالني هذا الحضور بجانب القوة الإنشائية التي يطرحونها، وكأنهم يقررون أن الحقيقة ما يرونه ويعطونه ويكتبونه.. يهولني هذا كما هال كثيراً من المتخصصين في علم (القضاء الجنائي) و(الدراسات النفسية الدقيقة) و(علماء الطباع). وهذا يعود أول ما يعود إلى أن معنى الثقة في النفس لديهم (رجراجة مبهمة)، ويختلط لديهم في أنفسهم معان كثيرة، لا يدركون مرماها على السير على وتيرة واحدة.

1 - فهم يخلطون بين: الثقة والجرأة.

2 - ويخلطون بين النقد والذم.

3 - ويخلطون بين طرح العقل والعاطفة.

4 - ويخلطون بين التسفيه والتوجيه.

5 - ويخلطون بين عرض الرأي والإلزام به.

6 - ويخلطون بين الحرص والتعالم.

ولو أن واحداً نظر فيما كتبه الآن لكن بعد 70 عاماً جدلاً لأسف لذلك؛ بدليل أنه (يهاويسن) كما تقول العامة، ويكتب عن ثقة وجرأة بينما هو في الحقيقة يكتب إنشاءً ونشر غسيل. وبدليل أن ناقديه لا وجود لهم علمياً أو نقدياً أو ثقافياً بل يبادلونه - وهم قليل - جرأة بجرأة، وتهمة بتهمة، وقذعاً بقذع.. ولعله يتلذذ بالألم؛ إذ ليس له إلا هذا، بل لعله يفرح به لينزل لهم بعد ذلك (الصاع بصاعين).

بهذا تضيع المسؤولية العلمية الحقة، وتسود اللهجة، عفواً الكتابات الوقتية القاتلة للجهد والوقت والقناعة والطاردة للتجديد النوعي في مجال العلم والنقد والثقافة. ويشدد علماء الحديث، خاصة (الجرح والتعديل) و(علماء أحوال الرجال)، على أن من يكتب أو ينتقد بروح عجلة دون تأصيل وعدل ونزاهة وروية، ودون تورع، إنما هو يكتب عن نفسه أو مدفوع إلى ذلك. ويشدد (علماء القضاء التطبيقيون) على أن من يتعجل القول بجرأة وكثرة حركة، ومع إلزام واضح، فإنه تفوته حقائق كثيرة، لا يدركها إلا بعد حين. و(علماء النفس التحليلي) يؤكدون ضرورة معرفة الذات جيداً بعيداً عن خطاب الإلزام بتعالم ظاهر.

من هذه السبيل، فإن أدب الاختلاف المتسم بنشدان الحق بطرقه (العلمية والعقلية والنصية والفكرية الاجتهادية) للوصول إلى النتيجة ليس بذي عسر، وليس بذي مشقة.. كلا، فقد اختلف كثير من الكبار خلال القرون، وكذا اختلف أدباء ومثقفون وشعراء، فنتج من هذا الوصول إلى نتيجة تجديدية عالية، بقي أثرها إلى هذا الحين، ونحن لم نزل نأخذ بما توصلوا إليه من إضافات جليلة عجيبة أخاذة.

(رؤساء التحرير) لهم دور جيد ومعتبر في شأن تصنيف المقالات الرزينة، الرزينة جداً، وتلك الملموس منها ثقل العبارة واطراد القول والكلام العالي الأخلاق، وما يتسم بصفاء النفس وعلو الكعب نحو هدف سامٍ وغاية حسنة.

ولعل غالب من برز من كبار العلماء خلال القرنين الماضيين كانوا ممن كتب المقالات الجيدة ذات المقام السامق، كل في مجاله الذي كتب فيه ونبغ وأفاد. وقد كان (لرؤساء التحرير) دور جيد في بروز كثير منهم بعد أن عمل رؤساء التحرير بجهد ملحوظ على اختيار نمط قدير مما كان يكتبه أولئك بين حين وحين. واليوم أشاهد وأقرأ ويُذكَر لي ما يتم طرحه من مقالات وبحوث ودراسات تحريراً ونقداً ورأياً ونقاشاً، وهذه أمور يلاحَظ أنها لا يحسن أن تمر هكذا. فلو أن كل صحيفة تعمد إلى كتاب دوري كل عام؛ لتخرج كتاباً تجمع فيه ما تشابه طرحه والكتابة فيه، ويكون ذا تناول رفيع مؤصل ومبوب، فهذا دون ريب عمل يستحق النظر، وهذا يكون حافزاً جيداً لذوي الكتابات العجولة والإنشائية للميل نحو الكتابات المركزة والجادة، التي تثري العقل في مجال (العلم والإدارة والطب والاقتصاد والسياسة والتربية)، ويبقى هذا ذكراً حسناً لمن يقوم به.

- الرياض