Saturday 10/05/2014 Issue 437 السبت 11 ,رجب 1435 العدد

سهام القحطاني

فلسفة الفتنة «فاشية الأنا» (1)

10/05/2014

بدأت خطيئة الأحادية «بأنا خير منه»

القيمة لا تُلغى بتهميشها، ولا يثبت إنكارها باختفائها. قد يقول البعض إن تلكم القاعدة عالمها أكثر من غافلها، لكن العلم بالشيء لا يحقق إيماننا به كما لا يضمن التزامنا بتقديره؛ ولذلك فالعلم هو ما وقر في القلب، وصدقه العقل، وآمن به الفعل.

والمسألة ها هنا لا تتعلق بإثبات سُنة معلومة بقدر ما تتعلق بتذكير لحتمية قد تنفلت من أذهاننا من فرط حماسنا لمقابل يطفو فوق مقابل، أو ندية تحطم هُبلاً آخر.

انفلات يلزم بنفعية الذكرى في ضجيج المطالبة بإخضاع منطق العقل المتوازن لضرورة الأحادية؛ لأنها الأنفع، سواء بمقتضى الحاجة، أو مقتضى الحماية؛ لتتجاوز بذلك الضرورة الدور الذي منحتها إياه الطبيعة، دورها المباح في شق صف المحذورات إلى دور يتعدى طبيعتها كطارئ إلى طبيعة أكثر ثباتاً وأوسع تواجداً؛ ما يعني فرض مزاحمتها للطبيعة بالأصل، وحيناً تحولها إلى أصل الطبيعة.

وكأن الضرورة بهذا التوجه دخلت ضمن الأولويات، وتحول الطارئ إلى أولوية يكسبه ما يخص الأصل من خصائص وسلطات تستطيع التحكم بدورها في تجويب ما تعتقده.

وما تعتقده الضرورة وفق الأصل الذي وضعت له، أي فاعل التجاوز الاضطراري لشق محذور، يشرع لها دعم أحادية محصنة ومانعة لأي تفاعل ينقض ما تدعمه، وما ينقض ما تدعمه هو فاعلية التعددية؛ ما يحول كل ناقض لداعم الضرورة هو في حسبان «المحرم».

ولأن الضرورة في أصل نشأتها هي فاعل تجاوز اضطراري بالتعليل، لتحصيل منفعة أو منع مضرة، فلا يمكن اعتمادها مصدراً لشرعنة أو لقوننة؛ لأن ما يشرع ويقونن يجب أن يتصف بالطبيعي وفق الأصل؛ لأن هذا التوصيف هو الضامن لقيمة الثبات لكل طبيعي بالأصل.

ولذلك فما يبنى وفق ضرورة وإن كانت معادلة لمرتبة الطبيعي من قانون أو تشريع هو باطل؛ لأنه يفتقد أصل قيمة الرأسمالية للطبيعي الثابت، كما أن حكم فاعل التجاوز الاضطراري في تصدير شريعة أو قانون فيه مفسدة للعام النهضوي؛ لأن تلك الضرورة توجب بدورها الإقرار بأن الواحدية هي مصدر الفاعلية الجمعية، وأن تلك الواحدية متى ما قبلت على نفسها التقسيم وفق معادل المثنى والثلاث والرباع فقدت فاعليتها الجمعية التي تمكنها من التحكم في إصدار التشريع وبناء القوانين. وهذا اعتقاد توارثناه بالعرف قبل التداولية؛ ما جعله ضمن الحتمي، وتدخل الحتمية فيما يتعلق بالمقتضى يفسد الترقي.

فالأصل الثابت لقيمة الرأسمالية الطبيعي هو أن الإيمان بفاعلية المشاركة، أي بعدالة توزيع القيمة وتداولها، هو الذي يبنى عليه أساس التعايش، وأي نقص أو تعديل في ذلك الأساس يهز شرعية ما يبنى عليه.

أقصد أن استغلال الأحادية كمدعومة من الضرورة لتحويل المقتضيات إلى ثنائيات عدائية تدفع إحداهما الأخرى للإزاحة لا للاكتمال هي التي تفرض على الجماعة وهم ارتباط الأحادية بالاستقلالية، وهو وهم يقدس التمسك بالأحادية والتبشير بها.

وكأن الأهمية المستقلة للجماعة لا تنمو إلا في مساحة الأحادية، وذلك وهم آخر، وهم إمكانية الاستقلالية الأحادية في حدها الخاص الخالص، أو وهم وجوبية الارتباط بين الأحادية وتمام الاستقلالية؛ لأن مشاركة التطابق التشابه تنفي جازمية الحد الخالص للخاص، بما يعني أن التطابق ليس كلياً، وأن الكلية هنا الموجبة للأحادية هي مزج بين ما هو مطابق للأصل وما هو مطابق بالمتشابه أو تابع المطابق بالتشابه، سواء بالوصف أو الارتباط.

ما أريد أن أقوله هو أن الإيمان بوجود أحادية خالصة تتكون كليتها بأصل التطابق دون غيره داعمة لاستقلالية الجماعة لمنهج وخطاب أحاديين هو وهم لا يمكن وجوده؛ لأن التنوع أصل الطبيعة لا الأحادية، وتجاوز الأصل باعتبار أو حد أو اعتقاد لا يغير الأصل بالتراضي أو التوازن، بل لا يمكن معها قوى الاعتبار أو تطاول الحد أو تطرف المعتقد أن يضمن القبول بالتراضي أو يعقلن الأحادية كمصدر للتوافق، أي غلبة الخطاب الأحادي للإضرار بخطاب التعدد والتنوع، ولا يمكن وقوع هيمنة الأحادية كمنهج وخطاب متى ما كان الواقع كافلاً قوياً لاستحقاقات التعددية وتوازنات الطائفيات وكفايات الأقليات، وقوة الكفيل هي التي تكسر حدة هيمنة الأحادية وسلطتها وتسليمها إلى الزاوية الخاصة بها.

ووفق تلك الاستراتيجية لا يمكن للأحادية أن تؤثر على الأصل بالتغيير أو التعديل أو الانحراف إلا في غياب الواقع الكافل القوي، وهنا منطقة فتنة محتملة.

إن تفوق الفهم الوجداني على المنطق العقلي، وهو تفوق مصنوع لا مطبوع، توجه له الأنا بصورة سافرة مكشوفة المقاصد والغايات من خلال إصرار وتعمد لتغييب المقابل لها، والمقابل لها هنا ليس هو الآخر، أي ليست هوية تحمل محرك بحث، بقدر ما هو صفة كافية لتجهيز التعدد والتنوع، وتلك الصفة تتجاوز دلالة المقابل كآخر موسوم بالاختلاف والتناقض والخلاف والصراع.

لكن غياب الإحساس بمعلومية الوهم عادة ما يرجع إلى تعمق تفوق الفهم الوجداني، وكأن الأحادية بمستواها القطبي دليل قيمة غير قابلة للتجاور والتجاوز، تلك هي دائماً مبتدأ خطيئة الأحادية «أنا خير منه».

يتم تفوق الفهم الوجداني من خلال تصدير الوجدان كمدرك للتصديق والتعقل والحكم؛ ما يعني أن معيارَيْ التقويم والتبديل مرتبطان بالحبل السري للجذر المتحكم في نشأة الفهم الوجداني وتفوقه، وهو أمر يخالف ما تبنى عليه المعايير العقلية.

لأن الذات في مكونها الأنوي تميل إلى المطابق لها والمشابه، والميل لا يقتصر على الزحف الوجداني لجهة المطابق لها والمشابه بل يمتد إلى تعلّم إجراء لدعم ذلك الزحف بسلطة وترويجه ونشره؛ ما يعني أن الأحادية ليست طبعاً بقدر ما هي «ميل استوطنت الطبع» بفضل مدعوم مكتسب يسعى إلى إثبات أن ما يحتويه من قيمة دائم الصلاحية.

وهو إثبات في المقابل الضمني دال على أن ليست هناك قيمة توازي قيمته من حيث كفاءة الصلاحية، في حين أن «الإيمان بفاعلية التعايش بضابطيها» هو ثقافة تقوم على توازي كفاءة صلاحيات تعدد القيمة، وهو ما يضمن سلامة وصحة تداول القيمة.

وهي ثقافة غالباً ما تتحدى ذلك الميل المستوطن للطبع الداعم لوجدانية الأحادية وسلطتها أو تسعى إلى ترويضه أو قوننته.

والأهم أن ذلك التفوق للفهم الوجداني يمثل مؤثراً مهماً في تعزيز وهم ارتباط الأحادية باستقلال الجماعة، وذلك التفوق عادة ما يتم استغلاله من صانعي الأحادية ومؤيديها لتوطين الأحادية؛ باعتباره تكثيفاً دلالياً لهيمنة الأنا وكفاياتها الوصفية القائمة على الإدراك الذي يؤسس لقاعدة الاستيعاب بأن المحافظة على الخصوصية لا تتحقق إلا بجازمية الأحادية، وهو إدراك باطله يغلب حقه بالاقتضاء، وطارئه يغلب أصل طبيعته بترجيح المحذورات؛ ما يضيق مساحة التلاؤم مع الواقع، ويوسع مساحة الوجه الواحد والصوت الواحد.

وقد يقول البعض إن الفهم الوجداني درجة من درجات السلم العقلي؛ وبالتالي فتحمله مسؤولية التقدير والحكم لا يعيب حاصله بالعوار والخلل؛ كونه إحدى مراحل بناء المعايير العقلية.

إن المعيار العقلي ككفاية تنموية هو ضابط مراجعة وتعديل؛ ولذلك يتحمل مسؤولية التنمية العقلية للفرد والجماعة.

أما الفهم الوجداني فالوجدان مصدر من مصادر صناعة الفهم، لكن مدى موضوعية الفهم الحاصل من الوجدان والتزامه بالحياد المنطقي وتوافقه مع أصول المعايير العقلية الكبرى وكلياتها هي التي تحدد كفاءة الفهم الوجداني لقدرة التحول إلى معيار عقلي، أو التحول إلى مؤثر لتشكيل المعيار العقلي، أو التحول إلى ضابط للمعيار العقلي.

ومتى خرج الفهم الوجداني عن سيطرة تلك الثلاثية (الموضوعية والحياد المنطقي والتوافق مع أصول المعايير العقلية الكبرى وكلياتها) أصبح حاملاً لفاشية الأنا..

- جدة