Saturday 10/05/2014 Issue 437 السبت 11 ,رجب 1435 العدد
10/05/2014

(مَنهجيَّاتٌ) في (التحليل البلاغي) (1)

مستوى الجودة في النص الأدبي متصل بعدد من المميزات التي تكون سبباً في علو كعبه وتميزه، من أهمها ثراؤه الدلالي ونخبوية ألفاظه وجمال معانيه، وما لم تكن هذه المميزات جليَّةً في النص فإنه لا يُنتظر منه إحداث أثر كبير في المتلقي الواعي الذي يمتلك ذوقاً وحساً جمالياً يُمكِّنه من تمييز جيد النصوص من رديئها.

غير أنَّ الناظر في كثيرٍ من التحليلات البلاغية التي تستهدف النصَّ الأدبي ساعيةً إلى الكشف عن بعض مكنوناته الجمالية يلحظ حيناً نوعاً من التخبُّط والعبثية، وحيناً نوعاً من التكلُّف والاعتساف، وحيناً نوعاً من النمطيَّة والتقليدية، وفي النهاية لا يتمكَّن الناقد من إبراز جماليَّات النص، ويخيب أمل القارئ في هذا التحليل، ويُظلم النصُّ بسبب سوءٍ في التعامل معه وإخفاقٍ في قراءته. وكنت أفكِّر دوماً في ضرورة وضع أسسٍ منهجيةٍ والاتفاق على آلياتٍ علميةٍ تكون أساساً معرفياً ومنهجياً في استثمار البلاغة العربية في تحليل النصوص الأدبية، يعتمد عليها الباحث في أسرار الخطاب، وينطلق منها كي يتمكَّن من الوصول إلى تحليلٍ فنيٍّ وبلاغيٍّ يرقى لمستوى النصِّ الذي يقف إزاءه، ويتمكَّن من استثمار تراثنا البلاغي بصورةٍ صحيحةٍ ومفيدةٍ في استكناه ما تحمله هذه النصوص من جماليات لا يمكن الوقوف عندها بفاعلية إلا من خلال اعتماد تلك الأسس والآليات.

وما زال هذا الموضوع يلحُّ عليَّ حتى وقعتُ على بحثٍ قيم للدكتور محمد العروي الذي أدرك أهمية هذا الأمر، وحاول أن يُقدِّم مجموعةً من الآليات التي رآها أساساً معرفياً ومنهجياً للقول العلمي في الوسائل البلاغية الممهِّدة لتحليل الخطاب القرآني والكشف عن بيانه وإعجازه، وسبل رعاية أدائها الفني والجمالي في هذا الميدان، ومع أنَّ الباحث جعل هذه الأسس والآليات خاصَّةً في تحليل الخطاب القرآني إلا أنه يمكن تطبيقها على النصوص الأدبية، وصولاً إلى الكشف عن قيمها الدلالية والجمالية من خلال استثمار نافعٍ ومفيدٍ لتراثنا البلاغي وفنونه البيانية، دون دخولٍ في تقسيماتٍ وتقعيداتٍ ونظرياتٍ أضرَّت بالبلاغة العربية، وأدخلتها في دهاليزٍ من الجمود وكهوفٍ من التعسف.

ولا شكَّ أنَّ الكشف عن هذه الأسس المنهجية والوقوف عند آلياتها يحتاج إلى احتكاكٍ مباشرٍ مع البلاغة العربية تحصيلاً وتدريساً كما يذكر الباحث في مُقدِّمته، ويحتاج أيضاً إلى تتلمُّذٍ على يد علماء أفذاذ كان لهم باعٌ طويلٌ في دراسة البلاغة العربية، والوقوف على العديد من مشكلاتها، كما أنها ثمرة قراءاتٍ متواصلةٍ في بعض المؤلفات الحديثة التي حملت على عاتقها مسؤولية تقديم مقترحاتٍ منهجيةٍ لإصلاح البناء المعرفي والمصطلحي للبلاغة العربية.

وشرع الباحث بعد ذلك في ذكر هذه الأسس المنهجية بإيجاز، وكان حقُّ كلُّ واحدٍ منها الإفراد ببحثٍ أو كتابٍ مستقلٍّ لأهميتها وكثرة تفاصيلها، غير أنَّ طبيعة البحث تقتضي منه الإيجاز، ومن ثم فإنَّ هذا المقال بأجزائه سيحاول أن يوجز هذا الموجز، ويشير مجرَّد إشاراتٍ سريعة إلى هذه الآليات المنهجية لعلَّ الانطلاق يكون منها ومن غيرها في تحليل الخطاب الأدبي عامة، والخطاب القرآني خاصة.

وأول هذه الأسس التي ذكرها البحث: (اعتماد أصول الفن البلاغي دون فروعه وتفريعاته)، وهو أساسٌ مهمٌّ للغاية؛ إذ إنه يُحدِّد كيفية التعامل مع ذلك التراث المتنوع والمتناثر من المفاهيم والمصطلحات، وما فيها من تداخلٍ واضطرابٍ كاد أن يعصف بجوهر هذا العلم، وبدأ يحجبه عن هدفه الذي كان يسير إليه في بداياته الأولى، وهو فهم كتاب الله، وتذوق الخطاب الأدبي وإدراك جمالياته، ولعلاج هذه الإشكالية التي ابتليت بها البلاغة العربية خصوصاً في العصور المتأخرة ينبه الباحث إلى مستويين من هذه الآلية، الأول (إهمال الفروع وإلحاقها بالأصول)، ومثَّل الباحث بفني (الجناس) و(المبالغة) بوصفهما من أبرز الفنون البلاغية التي أصابها داء التفريع ومصيبة التشجير وبلوى التقسيم، وأشار في هذا السياق إلى أنَّ القسمة المنطقية العقلية تحولت من دراسةٍ للخطاب الأدبي في بُعده الأسلوبي إلى دراسة ما ورائياته في قضايا العقل واشتغالات المنطق، أما المستوى الثاني فهو المنهجية المحورية التي تعمل على أن تكون فنون البلاغة الجزئية داخل أطرٍ وقواعد كلية تجمعها وتوحِّد أمرها، ومثَّل الباحث على هذا المستوى بـ(الكناية) وما يتشابه معها من فنون في تعريفها الموجز كـ(التعريض) و(التورية) و(الإيهام) و(التوجيه) و(الاستخدام)، فكلُّ هذه الفنون تشترك في أنَّ الاستعمال اللفظي يرد بمعنيين، وتتفق في أنَّ أحدهما يكون جسراً إلى الثاني، وفي دمج هذه الفنون المتشابهة داخل محورٍ واحدٍ يؤدِّي إلى اقتصادٍ مصطلحي، ويساعد على الهروب من مآزق التداخل والاضطراب.

أمَّا ثاني هذه الأسس فيتمثل في (اعتبار الذوق والتلقي أساس الاستثمار البلاغي)، ويؤكِّد الباحث وفق هذه المنهجية أنَّ الناقد حين يستدعي الدرس البلاغي في تحليله فليس ذلك لأجل الاستعراض والإقحام العلمي، وإنما للحرص على تنمية الذوق لدى القارئ والمتلقي، وإكسابهما الأدوات التي تخوِّل لهما إنجاز تلقٍّ جماليٍّ فعَّال هو الداعي إلى استثمار الدرس البلاغي في تحليل صور النصِّ وأساليبه وتقنياته التي يتميز بها.

وتعدُّ (تكاملية الدرس البلاغي مع غيره من الآليات والمناهج) ثالث هذه الأسس، حيث يكشف الباحث أنَّ البلاغة العربية لا تدَّعي كمال بنائها الجمالي والمنهجي، بل هي تُقدِّم نفسها صيرورة متطورة من الوعي الفني والجمالي والأسلوبي قادرة على استيعاب طريف المناهج وإدخالها ضمن قواعد قديمة ليحصل التمازج الفعَّال بينهما، وقد رصد الباحث في هذا السياق العديد من المصطلحات والمفاهيم والفنون التي جاءت من حقولٍ معرفيةٍ أخرى كالمنطق والنقد والكلام والتفسير.

وما دام الأمر بهذه الصورة فلا شيء يمنع من تطور البلاغة العربية ونموها في اتجاه استيعاب مفاهيم ومصطلحات مسافرة من حقول مناهج وعلومٍ جديدةٍ؛ كحقل اللسانيات أو السيميائيات أو مناهج تحليل الخطاب المختلفة أو من نظرية التلقي أو البنيوية أو التفكيكية ونحوها، ولتفعيل ذلك ينبغي أن توجد عقولٌ قادرةٌ على المزج بين (النظر الأداتي) لطبيعة المفاهيم والمصطلحات الذي يتعامل معها باعتبار أنها أدواتٌ إجرائيةٌ تفيد في التحليل واكتناه أعماق الخطاب، و(النظر الحضاري) الذي يشترط توافق هذه المفاهيم والمصطلحات مع منظومة البلاغة العربية، وهو ما سيخدم تطورها وقوتها المعرفية والمنهاجية، ويحفظ لها مكانةً ساميةً في معترك التداول المناهجي والتدافع النقدي الذي تمتلئ به الساحة في هذا العصر.

- الرياض omar1401@gmail.com