Saturday 10/05/2014 Issue 437 السبت 11 ,رجب 1435 العدد
10/05/2014

عيِّنة من نزيف العقل العربي!

قال صاحبي، وهو يُحاورني، أو قل: وهو «يُهاوشني»:

- لنفرض- جَدَلًا- أن للغرب بعض هنات هيِّنات جِدًّا، لا تكاد تُذكَر- بل من العيب أن تُذكَر- فإن حسناته يُذهبن سيِّئاته! أ لم يُمِدّ العالم بالأدوية؟

- قلتُ: كأنك تقول، إذن: ماذا فيها إذا نَشَر الأوبئة، وأودع المخلَّفات النوويَّة في ديارنا، أو أطلق على البشر السموم والغازات المُعيقة أو المُميتة، أو حتى قتلهم بعمدٍ أو بغير عمد؟

- إنه في الجانب الآخَر قد أفاد البشريَّة بالأمصال، وتقدَّمَ الطِّبُّ الحديث على يديه أيَّما تقدّم.

- صحيح، حتى إنه لو أراد ذَكَرٌ أن يصبح أُنثى على يديه أو بالعكس، فلا مانع من ذلك!

- لماذا نغمط الفضل أهله؟! علينا أن نعترف بأفضال الغرب على العالَمِين؛ فلولاه لكنّا في خبر كان يا ما كان!

- هذه حصيلة تراكمات حضاريَّة وعلميَّة أسهم فيها البشر كافَّة.

- تراكمات؟! أجل، هي تراكمات، كتراكمات البقايا لبعض الكائنات الحيَّة، التي كوّنت أصل النفط، وَفق بعض النظريّات، لكنها ظلّت تراكمات ميِّتة، حتى استخرجتها التقنية الغربيّة.

- منطقك هذا منطق عربيٌّ أصيل حقًّا، كمنطق ما علَّمنا إيّاه الأجداد من أن لكل ربٍّ مُنعِمٍ يومَي بُؤسٍ ونعيم! وتلك من لوازم ربوبيَّته، التي خضع لها قُدوتنا من الأجداد، بل عَبدوا مولاهم أحيانًا كإله طَوْطَم. وتلك الطَّوْطَمَة معروفة لا في الدِّيانات الوثنيَّة، بل حتى في النصرانيّة؛ حيث يضع الكاهن في قُدَّاساتهم الخبز في الأفواه، ويُرتشف عليه بعض النبيذ الأحمر، اعتقادًا، أو تشبيهًا، للخبز بلحم يسوع، وللنبيذ بدمه!

- ماذا تريد أن تقول؟

- أريد أن أقول إن عقليّة الانبهار بالسَّلَف أو الخَلَف قد تصل إلى درجة التأليه. وإنها ليست حكرًا على زمن. إنها حالة، أكثر منها حقيقة علميَّة موضوعيَّة. واستطرادًا توضيحيًّا، فإن الوثنيَّة ما زالت تسري في العالم، رغم أنف الأديان. وتُمارَس طقوسها في عُقر ديار الأديان. منذ سنوات كتبتُ مثلًا منتقدًا طقوس (الدوخلة)، المقامة في مهرجان سنوي في المنطقة الشرقية في (السعوديَّة)، ولم يُرِض ذلك سدنة الموروث الشعبي، بطبيعة الحال.(1) ويُمكن أن نضرب مثلًا آخر من (الولايات المتحدة الأمريكيّة) بطقوس (الهلاوين) السنويَّة. وهو يُمثِّل آلهة الموت (ساماهين) لدى شعب (السلت)؛ إذ تجوب أرواح الموتى الأرض، وإذا لم يُرضها الناس تحمَّلوا عواقب ذلك. وكانت تُستغلّ هذه الفكرة لابتزاز أموال الناس، بل التضحية بالبشر طلبًا للغُفران والسلامة. وكذلك في الطقوس الوثنيَّة، لا بدّ من أضحية للإله. فكيف نفسِّر تعلُّق البشريَّة بالخرافات والخزعبلات البدائيَّة، ضاربين عُرض الحائط بالأديان الصحيحة، والعقول، والحضارات؟ يبدو أن مكوِّنات تلك القِيَم تظلّ مستكنَّة في الأرواح والأذهان مهما تقدَّمت الأزمان، وأنها تُغذِّي لدى الإنسان نزوعات نفسيَّة، وتُرضي لديه عواطف اجتماعيَّة. وتبقى تلك العوامل مؤثِّرةً بوساطة الثقافة الشعبيَّة المتوارثة، ثم تُستحيى في العصر الحاضر هنا وهناك بالتكريس الثقافي «المُرَسْمَن»، الذي يتجاوز بتنظيمه لتلك الطقوس، ذات الجذور الوثنيَّة والشيطانيَّة، أثرَ تلك الأفكار في أجيال سلفت، بما يمنحه فعاليّاتها من احترامٍ واهتمامٍ واعترافٍ وطنيٍّ، في مواسم سنويَّة معتبرة، مموِّهًا عن بعض الأصول ظاهريًّا، فيما هي ما زالت تؤدِّي باطنيًّا وظائفها القديمة!

- خرجتَ باستطرادك عن الموضوع! ما علاقة هذا بموضوعنا عن الغرب والشرق؟!

- هي العقليّة نفسها، والطَّوْطَمَة ذاتها، وإنْ تلوَّنت. وبالعودة إلى الموضوع، فإن لسان حالك وأمثالك من العربان: إننا على تلك السنن العريقة الموروثة، ونحن، إذ نتنكَّر لأفضال الغرب على البشريّة، لا نعقّ أياديه البيضاء فحسب، ولا نعضّ أصابعه التي امتدّت إلى كلّ خرم إبرة في الكون فحسب، ولا ننسى قِيَم الوفاء العربيَّة السموأليَّة، التي يُضرب بها المثل فحسب، وإنما أيضًا نتخلَّى عن عادات أسلافنا وتقاليدهم في الرضوخ والتسبيح بحمد ربِّ نعيمهم وبُؤسهم، نابذين تاريخهم المجيد وراء ظهورنا، منذ (النعمان بن المنذر) و(عمرو بن هند) إلى ما شاء الله من النعمانات وأبناء هند!

- هكذا الغرب، أيها الظلمة المفترون عليه بغير حقّ؟!

- تلك صورته الرئعة لديك، وعلينا أن نحسِّن صورتنا نحن أمامه، لعلّه عنَّا يرضَى، وإنْ كان غالبًا لن يرضَى، وصورتنا لن تروق له، ومعه حقٌّ دائمًا، ولكن لنحاول، ويكفينا شرف المحاولة!

- من قال هذا؟

- أنت! أنت قلته من حيث لم تقله. فللكلام معنى، ولمعناه معنى.

- كيف؟

- معنى متلازمة خطابك: تلك صورة الغرب الودود الحنون: إنْ جرحَ، داوَى، وإنْ قَتَل- وكثيرًا ما يفعل لفرط مشاعره الحسّاسة حين يُستفزّ من غوغاء العالم الثالث- فإنه يُتبِع إطلاق الرصاصة، وبمنتهى الذوق والتهذيب، بكلمة: «آسف»!

- تلك كلمة لا تعرفونها، أيّها الأجلاف، ولا وجود لها في كلّ معاجم لغتكم الصحراويَّة أصلًا!

- دعك من تنميق معجم الآخَر! كأنما أنت تقول: إنه يقتل بأسلوبٍ حضاريٍّ راقٍ، ولا يفعل ذلك إلَّا رأفةً ورحمةً! أكمل إعجابك، إذن، بالقول: إنه قد اجتهدَ عبر أطوار تاريخه الحافل بصنع الأسلحة منذ ديناميت (نوبل) - طيّب الله ثراه!- إلى القنبلة النوويّة، في سبيل جعل القتل سهلًا عذبًا سريعًا هنيئًا مريئًا، وتلك سُنَّة لم تأخذوا بها أنتم في إراحة الذبائح والعتائر! فالروح باتت اليوم تنطلق إلى بارئها في لمح البصر، بل آلاف الأرواح أصبح بالإمكان تصعيدها دون معاناة إلى الفردوس الأعلى، أو إلى الجحيم الأسفل!

- تجاوزَ أسلحتكم البدائيَّة من سيفٍ ورمحٍ وما شابه، من أسلحةٍ بدائيَّةٍ لا تصلح إلَّا لذبح الحيوانات! هذا هو الغرب- أيها الأغفال- بما أنجزته عبقريَّاته للبشريّة في كلّ مجال، لإنقاذها ممَّا هي فيه من تيهٍ وضلالٍ وتخلّف. ولا تُختزل في تشويهاتكم.

- أجل، معك حق! ولا يضيره ما فَعَلَ بعد ذلك! بل قُل أكثر من ذلك: أتنكرون أنه بعد القتل يرمي المعونات للورثة مخضَّبة بالدموع باليد الأخرى، حتى يحين حَينهم لديه؟!

- لا أعتقد أنكم تستطيعون إنكار هذه الحضارة النبيلة جِدًّا، في السلم والحرب، فعلامَ التجنّي؟!

- سامِحنا، هي طبيعتنا البشريَّة الأزليَّة في التجنِّي على ربّ الخَوَرْنَق والسَّدير المعاصر! فلماذا ننسى إنجازاته العلميَّة الباهرة وننظر فقط إلى ضرائب تافهة لذلك، كثقبٍ ما في الأوزن، أو كالتلوث، أو كالجحيم الذي تُنذِر الأرض أهلها بانفجاره، أو تخريب الطبيعة، والبيئة، والجوّ، والعبث بالجينات الحيويَّة، وإهدار الموارد الكونيَّة، وقبل كلّ شيءٍ إهدار كرامة الإنسان، ثم سفك دمه! أيّ تفاهات هذه التي تصرف أنظارنا عمّا دوَّخ به رؤوسنا من إبداعاته وعجائبه من الفنون، وعلوم الجمال، وابتذال المرأة، وانحطاط الأخلاق، وما حقّقه من غرورٍ ذهنيٍّ، وفضولٍ معرفيٍّ، يُؤْذِن بتدمير الحياة على هذا الكوكب الأرضي! وماذا في ذلك؟ ولنفرض أن هذا حدث، فداه.. فداه! ولا جَرَمَ أن نيته حسنه، ولكن أصابع الإرهاب العربي ومؤامرات المستضعفين في الأرض، الذين ما فتئوا يحيكون المؤامرات ضدّ الحَمَل الغربي الوديع، القابع في مختبر تكتيكاته، أو دوائر ذوي قراره، هم السبب في ذلك، هم، لا غيرهم، وسيبوؤون بإثم الدنيا آجلًا والآخرة عاجلًا!

وبعد، فهذه عيِّنة من نزيفٍ جدليٍّ عربيٍّ مستمرّ، يحاور بنصف كأسه، مُصِرًّا على شُربه، وإنْ كان نصفه الآخر السمّ الزعاف. لم أخترعها خيالًا، بل هي قصَّة واقعيَّة. شواهدها معروضة اليوم عبر وسائل الإعلام كلّها، بصورةٍ مباشرة أو مداورة.

- الرياض