Saturday 10/05/2014 Issue 437 السبت 11 ,رجب 1435 العدد

أنا - أنت أنا - هو

يعرض الوجودي مارتن بوبر في كتابه «أنا- أنت» مفهومه ورؤيته حول الوجود الإِنساني، الذي جعله يدور حول زوج من الثنائيات: «أنا - أنت» و»أنا - هو»، فهو يَرَى أنَّه من خلال هاتين الثنائيتين يتفاعل الإنسان مع غيره من الناس أو حتَّى الأشياء. ويجعل مجالات علاقات الإنسان ثلاثة يشرح فيها مستوى الكلام، ففي الأول منها وهو الحياة في قلب الطّبيعة يكون الكلام في أخفض مستوىً له لأنَّه يفتقر إلى العلاقة التبادلية إن صحت العبارة، أما في الثاني وهو الحياة مع البشر، ففيه تنفتح أبواب الكلام وهنا يكمن مجال الأنت وقبوله من الأنا، وفي الثالث وهو الحياة مع الأشكال الجلية التي يمكن القول بأنها تعبد الطريق للإنسان نحو الأنت الخالدة، كما أنها لا تستخدم الكلام بطريقةٍ مباشرةٍ.

ولنبدأ أولاً بعلاقتنا بالأشياء، فعند تأمَّل شجرة ما يمكن النظر إليها على أنها لوحة فنيَّة أو عمود نور، أو كحركة من حيث الشعور بامتصاص الجذور للغذاء عبر التربة، ويمكن كذلك النظر إليها بعدّها تعبيرًا عن قانون معين تختلط فيه المواد أو تفترق، أو يمكن تحويلها إلى مُجرَّد رقمٍ صرفٍ، ومهما اختلفت رؤيتي نحو الشجرة لكنها تظل الموضوع الرئيس في المكان والزمان، وذلك كلّّه يعني أنني أسبغ على الشجرة الطريقةَ التي أفكر بها التي انظر من خلالها إلى هذا الكون، وعند تأملي لها بأي شكلٍ كان فإنّه بالضرورة ستنشأ علاقةٌ بيني وبينها يراها بوبر علاقةً تبادليةً لأن الشجرة تتفاعل معي وأنا اتفاعل معها، لكن من زاويةٍ أخرى تبدو لي العلاقةُ ارتباطية، فوجودها بصورةٍ ما يعتمد على وجودي أنا في الأساس، وقد توجد هذه الأشياء خارج محيطي لكنها لن تحملَ المعنى نفسه داخله، وربما هذا ما حاول محمود درويش قوله في قصيدة له بعنوان في صحبة الأشياء يقول فيها:

لا شيءَ ينتظر. الأشياء غافلةٌ

عنا ونحن نحيّيها ونشكرها

لكننا إِذْ نسمّيها عواطفنا

نصدّق الاسم، هل في الاسم جوهرها؟

نحن الضيوفُ على الأشياء أكثرنا

ينسى عواطفه الأولى وينكرها

إذا انعدم الشعور بالذات هل يعني ذلك انعدام الوجود؟ خطر لي هذا السؤال مرةً، ووجدت جوابًا لدى بوبر يفصل فيه بين الأنا والجسد حين يجعل إدراك الأنا غير مرتبط بغريزة البقاء لأنّها لتسعى لتعميم ذاتها، الذي يسعى إلى البقاء هو الجسد عبر رغبته في صنع الأشياء، لكن «الأنا تبقى مكورة حول الجسم الذي يسعى للتمايز في خصوصياته، ولا يعدو هذا التمايز كونه تجاوزًا صرفًا لا يسعه امتلاك صفة الحالة التي تتضمنها الأنا»، وهذا يجعلنا نرى الوجود ماديًّا بصورةٍ ما بينما الأنا تدور في عوالم أكثر تجريدًا، هذا إذا صح اعتبار الذات معادلاً للأنا في المصطلح الفلسفي!

يدرك الإنسان ما يوجد حوله كأشياء فقط وما يجري كأحداث فقط، ومن خلال هذا كلّّه يستطيع إدراك عالمه المنتظم المنفصل، وهو عالمٌ موجودٌ دومًا يختفي حين يغمض الإنسان عينيه ويعود للظهور بفتحهما، هذا العالم هو ملكٌ للإنسان ويمكن له أن يعتبره الحقيقة، ولأنه كذلك فهو قابلٌ للأخذ لكنه لا يهب نفسه لأحد، ما يعني أن على الإنسان أن يبذل مجهودًا كي يصل إلى عالمه الذي يريد!

وبالرغم من أن هذا العالمَ واحد نشترك فيه جميعنا، لكنه متعددٌ أيْضًا، فالعالم يغدو عوالم بتعدّد الأشخاص الذي يحيون فيه. ومع ذلك يظل مساحةً تعين على الالتقاء بالآخرين، ولذلك يُثار سؤال حول الحقيقة وماهيتها، وحول ما إذا كان كل واحد منا يمتلك حقيقة تختلف عن حقيقة الآخر، إذا نحن أمام حقائق وليست حقيقة واحدة، إلا إن تمكنّا من إيجاد أرضيَّة مشتركة تنطلق منها كل تلك الحقائق الجزئية إن صحّ التعبير، التي ستوصلنا بالنهاية إلى الحقيقة المطلقة.

يقول بوبر: «لو أن الإنسان يلتقي من جانب آخر، بالموجود فيتجاوز، إلى حد ما، نقيضه، يبقى دائمًا مُجرَّد كائن بسيط وكل شيء يبقى مُجرَّد كيان، فالموجود ينفتح أمامه كحدث، والحدث يؤثِّر فيه كما هو، ولا شيء موجود بالنسبة له إلا ذلك الكائن الواحد المتَضمَّن العالم كلّّه وربما يعود ذلك إلى أنَّه مستقل الوجود عنا تمام الاستقلال، وهو كائن سواء أكان ذلك صادقًا بالنسبة إلينا أم لم يكن، وعندها تفقد الرابطة بيننا وبينه صفة الضرورة.

يجعل مارتين بوبر العلاقةَ بين الأنا والأنت مستقلة عن الزمان والمكان، ولذلك فهي لا تخضع لقانون السببية فتظهر هنا الحرية لا الضرورة، بينما تتعين العلاقة بين الأنا والهو في سياق الزمان والمكان، وتخضع لقانون السببية لذلك لا تظهر الحرية بل الضرورة، ويشير إلى أن الثنائية الأنا الأنت تتميز بالتبادلية الحوارية، لكن ثنائية الأنا- الهو لا تعدو كونها نوعًا من الحوار الداخلي مع الذات «المونولوج»، بمعنى آخر حين نؤمن بوجود الآخر المختلف تصير العلاقة ندية ويتحول الحوار إلى وسيلة للالتقاء، لكن ما دمنا نغيّب الآخر ونلغي اختلافه «أو هذا ما نسعى إليه»، فإنَّ العلاقة تصير إقصائية ويغدو الحوار صدى «كأنه النشيج» يردد صوتًا واحدًا فحسب، ويذهب بوبر إلى أبعد من ذلك ليجعل من علاقة الأنا - الأنت طريقًا أوحد لتفاعل الإنسان مع الألوهة، لأنَّه إنما يكون يتفاعل مع ذاته بتفاعله مع الآخر، وهو يتخذ هنا مسارًا مختلفًا عن مسار سارتر الذي رأى في الآخرين جحيمًا فيوجد بوبر نعيمه أو فردوسه عن طريق الآخر.

وإذا كان الوجوديون يرون أن التفاعل مع العالم الخارجي هو الواقع، والواقع المعيش هو الراهن له أهمية كبرى، يصبح الحاضر أو اليومي ذا أهمية كبرى لديهم فالمهم هو «الأنا الآن»، ولا عبرة للماضي لأنَّه غير موجود والمستقبل يجب أن نوجدَه، لكن فيما يبدو أن لدى بوبر نظرة أخرى تجاه الموضوع، فهو يَرَى أننا لا نستطيع العيش في الحاضر المجرد دون اتِّخاذ الاحتياطات التي تكفل لنا قهره بسرعة وبشكل تام، لكن من

الممكن العيش مع الماضي المجرد على أرض الواقع إن كان بوسعه تنظيم الحياة، فكل ما نحتاجه هو ملء اللحظة بالتجربة والاستخدام عندها يكف عن حرقنا! «أيها الماضي لا تغيرنا كُلَّما ابتعدنا عنك، أيها المستقبل

لا تسألنا من أنتم وماذا تريدون مني، فنحن أيْضًا لا نعرف، أيها الحاضر تحملنا قليل فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل. محمود درويش

كان للروح حضور أيْضًا لدى بوبر، وكما فصل بين الجسد والأنا، فهو يميز بين الروح والأنا باعتبار أنَّهما ليسا واحدًا، لكن الروح تقع ما بين الأنا والأنت ويكون الإنسان أكثر استجابةً للروح إن استطاع إقامة علاقة مع الكائن الكلي الخاص به، فهو بفضل هذه العلاقة يكون قادرًا على الحياة في الروح، وهذا يتناسب تمامًا مع فلسفة بوبر ذات الطّبيعة الروحانية، ويمكن القول بأنَّه يختلف عن بعض الوجوديين الذين تركزت نظرتهم في العدمية والشك، إِذْ يحاول بوبر هنا إيجاد مساحةٍ وفضاءٍ خاصين يمارس فيهما الإنسان أناه التي توصله إلى الخالق.

تتشكّل الحياة الإنسانيَّة بالاعتماد على ثلاثة عناصر: الحياة العامَّة «المؤسسات - المضمون الثابت»، الحياة الخاصَّة «المشاعر - المضمون المتغير»، والوجود المركزي للأنت، فلو استثنينا كل حالة لا يكون فيها الواحد حاضرًا بالنسبة للآخر ومحققًا وضعه الحالي لديه، إنما يكون مستمتعًا به فما الذي يتبقى من العلاقة؟ تغدو! العلاقة نفعيةً إن صح التعبير ويتحول الآخر إلى شيء!

مرة أخرى يركز بوبر على ثنائية أنا - أنت التي من خلالها فقط تتحقق الأنا الحقيقية لأنّها تعترف بالآخر وترى نفسها من خلاله، لذلك فهو معجب جدًا بأنا سقراط لأنّها أنا الحوار الذي لا ينتهي، ومعجب بأنا غوته الكلية لأنّها تعمل على الوصال مع الطّبيعة فتقدم الطّبيعة نفسها لها وتتحدث بلا توقف، إذا نعود إلى مسألة الحوار مرة أخرى.

بوسع كل إنسان أن يكون أنا - أنت كما بوسع كل إنسان حين يقول أبي أن يصبح ابنًا، من ناحية أخرى يمكننا استعارة قول عبد الرحمن بدوي لإيضاح هذه الفكرة: يتحول الشيء المتغير إلى نقيضه لكن هذا الآخر أو النقيض يتحول مرة أخرى إلى آخر أو نقيض وهو بهذا يعود إلى الأصل، وكذلك هو الحال بالنسبة للأنا فقد تكون أنت وقد تكون هو دون أن يعني أن أحدهما (أنت أو هو) هو نقيض بالضرورة.

بثينة الإبراهيم - القاهرة