Saturday 13/09/2014 Issue 445 السبت 18 ,ذو القعدة 1435 العدد
13/09/2014

الأقفال السبعة

الوقت صيفا. درجة الحرارة تفوق الخمسين. خرجت من الوزارة منهكا أتابع حقوقي التقاعدية بعد أن تجاوزت الثالثة والسبعبن. ملفي مفقود لا أحد يعرف أين هو من بين ملايين وملايين الملفات تذكرني بقصة كافكا «القضية» في فصل الملفات. أسكن في شقة لصديق لي لديه شقتان. الصديق يعمل في مجلس الوزراء. العرق يتصبب من كل جسمي. لا أدري أين أخفي جواز سفري وبعض النقود في جيبي أخاف أن تنتهي فأنتهي. أخذت تاكسي للوصول إلى الشقة.

رن الهاتف الجوال. جاءني الصوت منفعلا من صديقي صاحب الشقة، أين أنت لماذا لا ترد على الهاتف قلت له أخذوا مني الهاتف في استعلامات الوزارة حيث أتابع معاملة تقاعدي. ممنوع إدخال الهاتف الجوال. قال لي إذهب على الفور إلى الشقة ولا تغادرها قلت له لماذا قال لي بدون أسئلة أسرع إلى الشقة وابقَ فيها ولا تخرج. توقفت سيارة التاكسي قالوا لنا الشوارع مقفلة في بغداد. قال لي صاحب التاكسي انزل فلا أستطيع الوصول إلى عنوانك في الصالحية. جد لنفسك حلا. نزلت من التاكسي مشيت مشيت مشيت.. المسافة بعيدة ودرجة الحرارة تفوق الخمسين. بعد أكثر من ساعتين من المشي وأنا لا أتذكر الطرقات بعد غياب أكثر من ثلاثين عاما عن الوطن. اقتربت من موقع سكني سمعت إطلاقات النار بشكل كثيف وطيران يحوم فوق البناية. عرفت بأن مسلحين استولوا على بناية وزارة العدل الملاصقة للبناية التي أسكنها. دائما أخاف وأتحسس مفتاح الشقة خوفا من أن يضيع وأخاف على جواز سفري أن يسقط من جيبي أو أفقد نقودي المتواضعة. تمكنت من فتح الباب وسط أصوات الطلقات والانفجارات وصوت الطيران يحوم فوق البناية الملاصقة لوزارة العدل المحتلة، فتحت الباب الحديدي الأول ثم فتحت الباب الثاني وقفلت البابين. كانت الكهرباء مقطوعة. رميب بملابسي ووقفت تحت الدش ثم استلقيت على الكنبة. لا أعرف الأخبار فالتلفاز لا يعمل بدون الكهرباء والكهرباء لا تعمل بدون التقنيين والتقنيين لا يعملون بدون الدولة والدولة لا تعمل بدون الحق.

عرفت بعد ساعات أن المسلحين الذين دهموا وزارة العدل قتلوا الحراس وعددا من موظفي الطابق الأول وهم الآن في الطابق الرابع يحرقون ملفات الوزارة حتى لا تتوافر دلائل الجرائم.

كيف يعيش المثقف وكيف يمكنني أن أخرج فيلما وسط هذه الأجواء المرعبة. جميع الشقق في البناية فيها أبواب إضافية وأقفال إضافية وأنا أخاف أنني لا أتمكن من فتح هذا العدد من الأقفال.

تجارة الأقفال باتت رائجة ومربحة في العراق، وأشكال الأقفال تنوعت وهي مستوردة من بلدان آسيا المتفننة في صناعة الأقفال أقفال بالمفاتيح وأقفال بالأرقام وأقفال بكلمات سر. أكثر المواطنين استعمالا للأقفال، هم المثقفون! لأن أعداد الذين تتم تصفيتهم وفق شعار الحرام هم المثقفون ولذلك فهم أكثر الناس استعمالا للأقفال وتنوعها.

مرت تسعة شهور من المتابعة للحصول على راتبي التقاعدي البالغ 400 دولار بعد خدمة أكثر من ثلاثين عاما.

احتجت إلى شهرين آخرين لتصوير الفيلم الذي حصلت على فرصة إنتاجه من وطني ووطني دائما على حق!

أخذت المواد المصورة وموضوع الفيلم عن غربة واغتراب المثقف وغادرت لإنجاز ما نطلق عليه العمليات اللاحقة.

الآن أنا في اليونان أنجز جوانب تقنية كثيرة للفيلم حتى أحدث العالم عن مثقفين بكوا في وطنهم ولكي أستطيع أن أجعل من هذا الفيلم الجميل الذي أرى فيه نفسي وغربتي وتعبي وغربة كل مثقف عراقي وعربي وحتى غير عربي، علي أن أحقق أعلى مستوى تقني للفيلم حتى يكون أكثر تأثيرا وأكثر جمالا.

رن جرس برنامج «السكايب» الذي يسليني في حديثي مع المثقفين العراقيين المنتشرين في الدنيا. جاء صوت السيدة «...» وهي مسرحية متفوقة عملت فترة من الزمن في إذاعة في المملكة العربية السعودية ثم عاشت فترة من الزمن في أمريكا ودفع بها الحنين لتعود للوطن العراقي بعد أن سقط النظام الدكتاتوري. السيدة تمتلك شقة صغيرة في حي من أحياء بغداد.

كيف تعيشين سيدتي؟ بأي مرتب تعيشين؟ ما هي أحلامك؟ ما هو الأفق الذي ترين؟

أخي وصديقي.. عندي مشكلة تتعبني.

ليست هي العيش ولا الراتب التقاعدي ولا الملفات الضائعة حيث منذ العام 2003 حتى الآن وأنا أبحث عن ملفي المفقود بين ملايين الملفات، ولكن هذه المشكلة تهون أزاء مشكلة ثانية.

ما هي؟ سألتها قالت.

مشكلة الأقفال فإني قد وضعت في باب شقتي الصغيرة بابا حديديا مثل الآخرين قبل الباب الرئيسي وفي الباب الرئيسي وضعت سبعة أقفال متنوعة الأشكال والتقنيات وعندي كومة مفاتيح أخاف عليها من الفقدان وصرت أخشى أن أحد تلك الأقفال يتوقف عن العمل ولا أستطيع أن أفتح الشقة وأخرج لمتابعة شؤون حياتي المتعبة، فأنا أنام في رعب كامل وأقلق طوال الليل خشية أن يأتي الصباح وأبدأ بفك الأقفال ويتعطل أحدها فأبقى في شقتي كما حاشية الفراعنة في الأهرامات تقفل عليهم أبواب الكتل الصخرية ويبقون هناك حتى يموتوا من الوهن والجوع والخوف.

أعيش حالة رعب من الأقفال قالت لي السيدة «...» حيث كل فرد مسؤول عن نفسه في هذه البقعة من الدنيا.

لا أحد يسأل المثقف عن إبداعه ولا عن أفق الإبداع بل يسأله عن عدد الأقفال في منزله وكيف يتم ترتيب تلك العملية في العائلة الواحدة المتكونة من أولاد يذهبون إلى المدرسة وتذهب الأم لجلبهم حيث الزوج في العمل وكل يحمل في جيبه قطعاً من الحديد اسمها المفاتيح في حمالة ثقيلة كي تفتح كل تلك الأقفال عند العودة إلى المنزل فيقفلوا أبوابهم ويناموا!

ولكن كيف إذا تعطل أحد الأقفال يوما في المنزل!؟

هذا هو الرعب الحقيقي وخاصة في هاجس المثقف المرهف وليس رعب المفخخات؟!

سؤالي المحير، أهي محض صدفة أن يكون عدد الأقفال سبعة. فالرقم سبعة يتكرر منذ الأساطير الأولى قبل آلاف السنين وهو يتكرر في الآثار وفي الكتب الدينية الوضعية منها والسماوية. لماذا الأقفال السبعة.. وحتى أجمل القصص للأطفال كانت حكاية «الأميرة والأقزام السبعة» بعد سنوات سوف تروى للأطفال حكاية بعنوان «الأميرة والأقفال السبعة»!

- هولندا k.h.sununu@gmail.com