Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

كنْ لوحةً للإطار!! (2)

«قلتَ.. ما لا يُقالُ

فلا تتعجَّبْ من الريحِ.. حين تسفُّ عليكَ الغبارَ

وينخلُكَ النورُ وحدكَ..

أنتَ الجنونُ.. الظلامُ الأنيقُ

وأنتَ الظِّلالُ».

يُفسد الفكرُ المجردُ والتنظير والتقنين والمنطق الشعرَ، ويحوله إلى نظمٍ ومحاكاةٍ على مثالٍ سابق، ومادةٍ علميةٍ جافة، لها وسائل أخرى لتأصيلها وتوصيلها، ويحد من تجليات الخيال والدفقات الشعورية؛ فيصبح ثقيلاً مكبلاً؛ لا يستطيعُ التحليق والطيران، ويغدو بارداً لا دفءَ فيه، وهو إن وصلَ قد يصلُ إلى عقولنا، لكنه لا يصلُ إلى قلوبنا، ولا يسري في شراييننا؛ فلا يسحرنا، ولا ننتشي به؛ لأنه لا يرفعنا، بل يقيدنا ويشدّنا إلى الأرض. لكن هذا الثقل والجذب للأرض، وهذا التعطيل للشعرِ ومفعول الشعر، لا يحدثُ إلا عندما يفقد الشاعر أسرار المعادلة الشعرية ورموزها.

فبالإمكان دائماً الجمعُ بين جمالَيْ الشعر والفكر؛ فلا تناقض بينهما لدى الشاعر المتمكن، بل إن الشعر عندما يخلو من بعده الفكري والثقافي والحضاري يصبح سقيماً ضعيفاً ساقطاً. فالشعر الذي يضيف إلى مخزون الحضارة والثقافة والفن والذوق العام لأمّة ولغة وهوية هو الشعر الذي لا يعطل قيمةً على حساب أخرى، وهو الشعر الذي يراكم ولا ينفي، وهو الشعر الذي يتكئ على التراث الحضاري واللغوي الخاص، والإنسانيّ العام، وعلى البيئة والواقع، دون أن يُرتهن، مساهماً في التغيير الإيجابي والإضافة والبناء، مغرداً بالحق والخير والجمال والحب والسلام، محتفياً بالطبيعة والإنسان، ساعياً إلى رفعته ورقيه وتحقيق إنسانيته، مكتنزاً بالأسئلة المثرية المحفزة على التساؤل والبحث، وهو بذلك يحرك العقل والشعور والوجدان، ويحرك مجاديف الحضارة والرقي، كما هو الحال مع بقية الفنون.

ونحن نعلم أنه ليس للشعر قواعد ونظريات ثابتة تُتبع ويُبنى عليها، وإلا لتشابه وفسد. فالشعر متحرك متعدد متغير باختلاف الشعراء والمدارس؛ وهنا سرّ استمراريته وخلوده. وهذا لا يعني هنا الشكل فحسب، بل يعني الشعر كله.

ونحن نستطيع تلمس ما قلنا لدى شاعرنا عبد الله بيلا؛ فهو مُخْلِصٌ لقصيدته، وهي مخلّصَةٌ له، تزيحُ عنه المرارات، وتشرح صدره بالجمال، وتفتحُ له الأبواب والنور والرؤى، فتريح ضميره ونفسه القلقة كقلق المتنبي، كما يتجلى لنا ذلك في أعماله، وفي قصيدة «أعمى ينتهكُ النور» بشكلٍ أكثر وضوحاً؛ حيث يشعّ النور كفكرةٍ وقيمةٍ وكشعور!!

فالأعمى الذي يرى هو شاعرنا، وإن كان شخصيةً حقيقيةً مرّ بها، أو خيالية ابتكرها خياله الخصب ليعبر بها عن رؤيته. وشاعرنا بيلا يدرك أسرار معادلة الشعر. وحين نقرأ الأعمى الذي يرى ندرك أنه يحسن وزنها عبر موهبته ولغته وثقافته؛ فيحافظ على توازن قصيدته، ويجعلها عاليةً دانية؛ فهو يُلمّح ولا يصرّح، ويُحيلُ ولا يشيرُ عبرَ «أعمى ينتهك النور»!!

«أنت الوحيدُ القريبُ من النورِ

تدنو إليكَ العِظاءاتُ!!

ليتكَ أدنيتَ قلبَكَ للنبعِ

هذا السديمُ سيجلو عن القلبِ أوحالَه..

سيُدنيكَ أعلى إلى الروحِ..

أنتَ الوحيدُ.. البعيدُ القريبُ.. الذي لا يُنالُ!»

ونحن حين ذكرنا ما ذكرنا حول الشعر كله نعلم أن للشاعر كامل الحرية في أن يكتب ما يشاء، وأن يطلق قصيدته كيفما يشاء، أن يتغزل بعيني حبيبتِه، أو أن يعرِض قضيته وقضايا وطنه وأمته، أن يجرّب، وأن يدرّب يده لتصبح أكثر مهارةً في رسم التفاصيل، أو في اختزالها.. المهم أن يكون لدينا شعرٌ يغرينا ويغوينا، ويرضي غرورَ ذائقتنا العربية التي تحب التحليق والطيران.

فالمهمّ ليس التنظير أو التأطير؛ المهم هو القصيدة الثريّة شكلاً ومعنى.. والمهم الروح؛ فالروحُ لا اللسانُ ما يقود الشاعر إلينا، ويزرع شعره في حقول جمالنا، ويثبت هويته وبصمته في مكتبة معارفنا وسلّم ذائقتنا.

فلتكن لنا أجنحةٌ إذاً، ولنحلّق مع الشعر والخيال والجمال:

«الطبيعةُ تُصغي إلى نبضِ حزنكَ

تُصغي إلى حزنِها كنتَ أنتَ!

غريباً.. مُريباً..

تشذُّ عن الآخرينَ

وحين انتبهتَ إليهم تفانَيتَ في ملكوتكَ

مُسترسلاً في الجنونِ..!

فكيف لهم أنْ يرَوك..؟

وكيف لهم أنْ يَعُوكَ..؟

وأنتَ الطِّلَسْمُ.. المَجازُ.. السرابُ..

وأنتَ الخيالُ».

* جميع المقاطع الشعرية للشاعر المبدع عبدالله بيلا

- الرياض mjharbi@hotmail.com