Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

صناعة القديس(4)

إن كل «قصدية» لها خطاب، والقصدية «مجموع من التعاليم والتشريعات التي تُمثل كفاية عقديّة» تسعى إلى سلطة المشيئة وفاعلية التمكين من خلال تشكيل وعي جماعة ما والتحكم في سيرة وتاريخ طقوسها الثقافية.

ولتحقيق ذلك المسار لدلالة القصدية وغايتها لابد من بناء خطاب يقوم بتحقيق تلك الدلالة وغايتها.

وبذلك نحن نقف أمام فاعلين؛ «فاعل يبني الخطاب» و»فاعل ينقل الخطاب»، وهناك بلا شك فروق بينهما لا أستطيع أن أقول إنهما فروق جوهرية، لكنها فروق وظيفية تراتبية، وغالباً ما يشتركان في الكثير من التطابقات الجوهرية، وهذا التطابق يسهِّل على كليهما تبادل الأدوار في مرحلة متطورة من الاحترافية بالنسبة للفاعل الناقل أو في مرحلة أزمة طارئة أو فراغ لمركز الناقل، حينها يخرج صانع الخطاب ليحل محل فاعل النقل حتى حين.

ولذلك، فالعلاقة بين الفاعل الصانع والفاعل الناقل رغم التراتبية الوظيفية والتاريخ والتوصيف الوظيفيين تظل علاقة تكاملية المضمون وهرمية الشكل.

يتشكل المجلس الإداري لخطاب القصدية من أربعة أعضاء هم، «مؤسس القصدية» و»الفاعل الصانع» و»الفاعل الناقل» و»الفاعل الإجرائي» أو المتلقي.

والقصدية كما ذكرت سابقاً هي «مجموع من التعاليم والتشريعات التي تُمثل كفاية عقديّة» تسعى إلى سلطة المشيئة وفاعلية التمكين من خلال تشكيل وعي جماعة ما والتحكم في سيرة إدراك وخبرة وتاريخ طقوسها الثقافية.

وبذلك يُصبح المراد بمؤسِس القصدية هو «المصدر الممثل للكفاية العقديّة»، وقد يكون ذلك المصدر «دين سماوي، أو نظرية وثنية أو نظرية علمية، أو نظرية اقتصادية، أو نظرية سياسية، أو نظرية دينية أو نظرية ثقافية»

ويُصبح الفاعل الصانع في ضوء قاعدة التأسيس تلك هو «مؤسس خطاب القصدية، أو هو المسئول عن تحويل مضمون الكفاية العقدية وأهدافها وغايتها إلى وعي عام إجرائي».

ويقصد بالوعي العام الإجرائي «مجموع المفاهيم والمعارف و القوانين والتصورات والوجدانيات الجاهزة الصادرة من الكفاية العقديّة للقصدية والتي يتعلمها ويطبقها الفرد والجماعة من خلال تمثيل العلاقات وإصدار الأحكام والمواقف وإنتاج أنماط خاصة من المشاعر والسلوك يتوافق قبولها وقيمتها ونوعيتها وسلامتها مع ما تهدف إليه الكفاية العقديّة للقصدية».

وهكذا تُصبح مهمة الفاعل الصانع لخطاب القصدية قائمة على أربعة محاور هي:

المحور الأول «تكوين المفاهيم والمعارف والقوانين والتصورات والوجدانيات وفق تعاليم وتشريعات الكفاية العقدية للقصدية التي ستُصدّر لتشكيل الوعي العام».

لكل مفهوم تاريخه وذلك التاريخ يشمل «أفق المفهوم» و»بنية المفهوم»، ويمكن اعتبار تلك البنية «البيان الموجِز لأفق المفهوم»، وهو ما يعني أننا أمام سلسلة متوالية من السند البنيوي للمفهوم مما يكثف دلالاته ويزيد من عتاقته ويشكل بدوره أفق التصور المعرفي للوعي.

ولا أقصد بتاريخ أفق المفهوم، المفهوم المدعوم بالتأييد من قبل صانع الخطاب إنما يشمل ذلك التاريخ أيضاً أفق المفهوم المقابل للمفهوم المدعوم بالتأييد، أي المفهوم المضاد، لأن الوعي يبني تاريخه المعرفي وفق الثنائيات. فتلك الثنائيات هي التي تُعين الوعي الفردي على إنشاء التصورات والوجدانيات.

لأن الوعي لن يتمكن من فهم «الذات» إلا من خلال «تأطير مفهوم الآخر» ولن يتمكن من «فهم الإيمان والجمال والسلام» إلا من خلال «تأطير لمفاهيم الإلحاد والقبح والحرب»، وهكذا يستمر صانع الخطاب في دعم بنيويات مفاهيمه بثنائيات تزيد من توثيق كفايته العقدية.

وبصورة أقرب للفهم يمكن القول إن الوعي يتحقق من خلال طريقتين؛ والطريقة الأولى تعتمد على خطاب القصدية؛ أي فرض أفق للمحمول البنيوي للمفهوم، والطريقة الأخرى إجرائية الإدراك والتي عبرها نمثل كيفية وجود الأشياء في العالم لتحديد أفق أولي للمحمول المعرفي والثقافي، ولكن هذا التمثيل «يظل تحت وصاية المسيّر الأيديولوجي للكفاية العقدية للقصدية» من خلال رعاية الخطاب الموجِه.

والقاعدة التاريخية التي يعتمد عليها تأسيس بنية المفهوم غالباً ما تكون هي السبب في مأزق الوعي العام، لأنها تحصر المفهوم في حالة قصور تمنع ذوات الوعي من الإضافة التنويرية للمفهوم أو الحذف الواجب له لتنفيذ التنوير، والثنائية - بلا شك - تقوي حالة القصور تلك، وليس كما يعتقد البعض أنها قد تسهم في توازن القوى التعايشية للمفاهيم.

والقصور يعني العجز عن الحذف أو الإضافة التنويريين من خلال استسلام الوعي لقيادة خطاب مضمون الكفاية العقدية للقصدية، وهذا الاستسلام غالباً هو مؤسس التطرف البنيوي للمفهوم.

يعتمد تطور بنية المفهوم على أمور عدة وتلك الأمور تمر بمرحلتين؛ المرحلة الأولى تتعلق «بصانع الخطاب»، والمرحلة الثانية تتعلق «بجرأة الوعي الخاص».

وقبل الحديث عن تلك المرحلتين نتو قف عند مفهومي «البنية والتصور»، كل مفهوم يتألف من بنية.

ويمكن إعطاء البنية توصيفاً تكوينياً على اعتبار أنها «هي مفرد الإشارة والرمز والتعبير والخاصية التي تمثل أصل الوحدة التعريفية للمفهوم».

وأظن أن التوصل إلى تراتبية قطعية ما بين بنية أصل المفهوم وأفقه مسألة ليست يسيرة؛ لأن علاقة الالتباس بينهما عميقة، إضافة إلى قوة اندماجهما بحيث تصبح عملية الترتيب غير مؤكدة الصحة.

فهل الأفق تُشكّل وفق الأصل أم أن الأصل يُشكل وفق الأفق؟.

إذا استندنا إلى «البدء» فكل مفهوم في نشأته الأولى عادة ما يتجرد من أي أيديولوجية، ولذلك تتصف المفاهيم في نشأتها الأولى «بالحياد» أو الشمولية الساكنة، وذلك السكون هو أوليّ للوعي في ضوء عدم «تقعيد الأنا بخلفية أيديولوجية «لضعف الفروق الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الأفراد والجماعات؛ لأن القاعدة الأيديولوجية عادة ما تنشأ بمصاحبة توسع الفروق الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لأن ذلك التوسع هو الذي يحرض الأفراد والجماعات على إيجاد ثنائيات تحمل التمييز والصراع.

ولنقف هنا قليلاً عند «قصة قابيل وهابيل» وكيف أسهمت الثنائية في نشأة الصراع الأول في تاريخ البشرية.

إن فكرة المساواة في مطلقها ليست هي الأصل؛ إنما رمزيتها؛ لأن الطبيعة الإنسانية متفاوتة في القدرات والميول والبعد أو القرب من المثاليات والمبادئ والإيمانيات، ووفق ذلك التفاوت تنشأ الفروق الفردية بين وعي الأفراد ومدى استطاعتهم على الإنجاز.

وفي الوقت ذاته فإن ذلك التفاوت يجب أن لا يحرم الجميع من «تكافؤ الفرص»، لأن ذلك التكافؤ هو الذي يحقق رمزية المساواة بين الجميع.

إن الاختلاف والخلاف بين هابيل وقابيل كان مقدراً لنكتشف خصائص الطبيعة الإنسانية من خلالهما، فاهبيل وقابيل كانا ابني أول نبي في تاريخ البشرية، ومع ذلك وقع ابناه في الخطيئة، وتلك إشارة إلى أن «لا أحد يرث عصمة الأنبياء»، وأن الاختلاف هو أصل الطبيعة الإنسانية لا الأحادية، ورفض هذه الأصل هو الذي أوقع هابيل في خطيئة قتل أخيه، لأنه أراد أن يكون مساوياً لأخيه في القدرات والاستعدادات التي تميّز بها قابيل، وكان بإمكانه أن يكون له مساوياً لو استثمر اختبار «تكافؤ الفرص» الذي منحها الله لهما ليقربا قرباناً، لكن رفض أحدهما مقابل قبول الآخر كان مضبوطاً بقيمة ما قّدّم وجودته.

إذن صحة «تكافؤ الفرص» ونزاهتها هي الممثل لرمزية المساواة لا المساواة في إطلاقها.

والنقطة الثالثة هي «فكرة الصراع» إذا كان الاختلاف هو أصل الطبيعة الإنسانية فالصراع ليس الوجه الآخر للاختلاف، لأن الاختلاف - كما قلت - هو أصل الطبيعة الإنسانية، لكنه تحوله فيما بعد - أقصد الاختلاف - إلى دافع للصراع لم يكن سوى حاصل الانحراف الدلالي لذلك الأصل ليُصبح «خلافاً» يجوّز الصراع، وكما قلت سابقاً دوماً «الانحراف الدلالي» يخدم مصلحة الكفاية العقدية لأي قصدية وصانع خطابها.

وهنا يُشرّع مبدأ «موت الآخر» للتخلص من القيمة التي قد تربي قوة لمناهضة القوة الفاسدة والخطاب الفاشي.

لكن المؤكد في تلك العلاقة وجوب التناسق بين أصل المفهوم وأفقه، في صناعة خطاب أي القصدية الموجِه لبناء الوعي العام الإجرائي.

وهي وجوبية لازمة قد تدفع صانع الخطاب إلى صناعة دلالة انحرافية تزور أفق المفهوم لصياغة بنية مفهومية تتوافق مع قصدية الكفاية العقدية، أو تدفعه إلى التأويل الانحرافي لتكوين أصل للوحدة التعريفية لبنية مفهومية خاصة لإنشاء أفق يستطيع توظيفه لخدمة الكفاية العقدية للقصدية، وهي تَنتج ما تُنتجه الدلالة الانحرافية تزويراً للبنية المفهومية.

وما يُسهم في سهولة الانحراف الدلالي لأفق المفهوم أو الانحراف التأويلي لبنية المفهوم عمق العلاقة الملتبسة وقوة الاندماج بينهما، وهو ما قد يستثمره صانع خطاب القصدية في عمليات الحذف والإضافة والتركيب لبنية مفهومية تدعم مصلحة الكفاية العقدية للقصدية.

- جدة