Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

يا (نُقَّادنا)؛ أجيبوا دَاعِيَ (النص) «3»

ويظل التأثر بمبادئ المناهج النقدية الغربية دون تأمل فيها وتمحيص هو السبب الأبرز الذي جعل كثيراً من النقاد العرب إلى الانحراف عن الجادَّة في قراءة النص الإبداعي، وعدم تقديم ما يشفع لهم أمام القارئ الذين وثق بهم وبخبرتهم وسعة اطلاعهم وذوقهم وتجاربهم، فخانوه عمداً أو دون عمد، وذلك حين أخضعوا رقابهم إلى هذه المناهج فقادتهم نحو الضياع النقدي والفشل القرائي.

ومن تلك المبادئ التي أسلم لها بعضهم وسلَّم بها: الاعتقاد بأنَّ إبهار القارئ وإدهاشه ولفت نظره هو الهدف الأسمى والأهم من الممارسة النقدية، والإيهام بأنَّ ما يُقال في هذه الممارسة وما يُكتب بلغتها إنما هو استثنائي وغير عادي، ولا مانع بعد ذلك من العبث بالنص ومسخه وتشويهه؛ ولذلك فإنَّ من الأمور المحرمة عند هؤلاء أن يجرؤ أحدٌ محاولاً تفكيك الشفرات الفكرية والنقدية التي يَختلقونَها، وأن يغامر في تقديم الطلاسم التي يَخترعونَها إلى المتلقي بوضوحٍ وسهولة؛ لأنَّهم يرون أنَّ هذه القراءات ينبغي ألا يفهمها إلا (نُخبة النخبة)، ولا يمكن أن يستوعبها إلا تلك الفئة التي بلغت مرحلةً مُتقدِّمةً من الثقافة الفكرية والنقدية واللغوية والأدبية التي تَمنع من وصول غيرهم إليهم، أما غيرهم فمن الطبعي ألا يفهم منها شيئاً إطلاقاً.

والحقيقة أنَّ هؤلاء المتثاقفين يتعمدون بهذا النهج عدم الالتفات إلى النص، ومحاولة زرع ألوان من الغموض المتعمَّد الذي يؤدي إلى خلق نوعٍ من الرهبة في نفوس المتلقين، وما ذاك إلا من أجل أن يُحيطوا أنفسهم بسياجٍ سَميك، ويضعوا ذواتهم في بروجٍ عاجية، لا يُمكن لأحدٍ بلوغها، وهو ما يتيح لهم فرصة العبث بالنص، وتقديم تفسيراتٍ عبثية، تَهدف إلى إدهاش القارئ، وتُوهِمه أنَّ هذه القراءة النقدية استثنائية ومُنتخبة؛ ولذا فلا عجب إذا لَم يَجد المتلقي صِلةً بينها وبين النص المنقود، ويبقى المتلقي غير الفطين مَخدوعاً بِهذه الترهات، واقفاً أمامها وقفة إكبار وإجلال.

ومثل ذلك ما يعتنقه أصحاب نظريات التلقي الذين نقلوا العناية من النصِّ إلى المتلقي بوصفه الركن الأهم في العملية النقدية، وبالغوا في هذه الرؤية إلى الدرجة التي يرون فيها أنَّ النصَّ لا قيمة له من دون القارئ، بل إنهم ينظرون إلى القارئ بوصفه خالقاً للنص، ومانِحاً إياه دلالاته ووجوده، وهذه الدلالات اللانِهائية لا يُحدِّدها سوى المتلقي (النخبوي) أمثالهم فحسب، مستبعدين النصَّ والمؤلف والسياقات الداخلية والخارجية، وكلَّ ما سوى القارئ / العابث.

بل إنَّهم يتجاوزن ذلك إلى إيمانهم العميق بأنَّ هذا القارئ يتحوَّل إلى منتج للنص وليس مستهلكاً له، حيث يَمتلك حُريَّةً مُطلقةً في كتابته وتفسيره بالطريقة التي يريدها، على أن تكون قراءته إساءةً لقراءةٍ أخرى، وتدميراً للقراءات التقليدية السابقة، ومن ثَمَّ يَحِقُّ لِهذه القراءة أن تُسمَّى قراءةً إبداعية، وهو ما يؤدي حتماً إلى إشاعة الفوضى في النص، وفتح أبواب العبث فيه لكلِّ قارئ وناقد، مُستظلِّين بِهذه النظرة التي تُقدِّس المتلقي، وتبصم بالعشرة بأنَّ كلَّ ما ينتجه من دلالات، وما يكتشفه من (معان)، صحيحٌ لا مَجال فيه للخطأ والإخفاق، ومقصودٌ لا يتراءى إلا لأمثالهم من العباقرة الأفذاذ!

وإذا كانت الأسباب الماضية تتجه نحو المسار الفكري فإن للمسار الاجتماعي نصيباً من ذلك؛ حيث أعتقد أنَّ من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انتهاج بعض النقاد هذا النهج الرغبة في إشباع طبيعة النفس البشرية في حُبِّ الظهور والبروز والتقرُّب من الشهرة الزائفة، من خلال تفسيرات موهومة بزعم أنَّها غير مسبوقة، وإذا كان عمل النقاد معروفاً والعملية النقدية مشهورة فلماذا لا يبتعد صاحبنا عن هذه التقليدية القديمة! والنمطية المقيتة! ويضع لنفسه منهجاً جديدا، ويحاول أن يأتي بما لم يأت به الأولون، ولن يأتي به الآخرون، والنتيجة بعد ذلك معروفة!

ولعل مما يجعل الناقد جريئاً في السير نحو هذا الاتجاه ما يجده من نقاد زملاء لهم نفس التوجه، يحبون الشهرة والبهرجة والخروج عن المألوف للإدهاش والضحك على الذقون، ويساعدهم في ذلك وجود قرَّاء ضعفة، لا يملكون أدنى خبرة في هذا المجال، فيطبِّلون لهم ويزمِّرون، ويهللون بمولد جيلٍ جديدٍ من النقاد، يبحث في الخفايا والماورائيات، ونظرتهم إلى النص في الحقيقة لا تتجاوز أنوفهم!

إن على الناقد أن يعي حجم المسؤولية التي يحملها على عاتقه، وأن يؤدي دوره المنوط به على أكمل وجه، وأن يعرف قدر النص الإبداعي الذي يتناوله، وأن يحترم القارئ الذي يخاطبه، وأن يحرص على أن تكون مهمته الأساس التحليق في فضاءات النص، واكتشاف ما فيه من دلالات ورؤى، وإيحاءات وظلال، دون التهويم في أمور لا علاقة لها بالنص من قريب أو بعيد، أو محاولة اعتسافه والتكلف في فهمه دون دليل واضح من داخله أو خارجه، وأظن أنَّ نقادنا لو فعلوا ذلك في ممارستاهم القرائية، وانصبت عنايتهم على الغوص في أعماق النص، والكشف عن جمالياته وتفسير دلالاته، لزال هذا العزوف عن ممارسة هذا الفن الجميل، ولأضحى الناس يعشقون الإبداع الأدبي وما ينتجه من قراءة نقدية، وهنا فقط (يجيب) النقاد (داعي) النص.

- الرياض Omar1401@gmail.com