Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد
14/06/2014

الديمة

كثيرون من المبدعين ليس واحداً فحسب يعملون بصمت وينتجون الإبداع وكل عطائهم خير، لا يبتغون الجزاء ولا الشكر، لا تكتب عنهم الصحافة وإن كتبت ففي هوامشها وزواياها غير المقروءة. يرحلون عن هذه الدنيا في خضم النسيان لا نعرف أين ماتواكيف ماتوا من دفنهم وأي قبر ضم رفاتهم.

مثل هؤلاء كثيرون وزاد نسيانهم نسياناً عصف الإعلام وزورقة وصخب البرامج الصاخبة فيعيش أولئك المبدعون في حزن صامت يرقبون الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية بعد أن يمضي بهم العمر ويعقبون ويبتسمون ابتسامات ساخرة وهم ربما في المقاهي يشاركهم صديق أو بدون ثم يرشفون فنجان القهوة أو كوب الشاي ويمشون هادئين نحو بيوتهم يتأملون وقد يقرأون أولا تساعدهم عيونهم على القراءة .. ويوما يأتيهم الأجل المحتوم ويرحلون بصمت وينسون!

في بداية حياتي المسرحية والسينمائية تعرفت على واحد من هؤلاء فانضم إلى فريق عملي في فرقة مسرح اليوم ثم مؤسسة أفلام اليوم، وعندما أصدرنا مجلة السينما اليوم تسلم رئاسة تحرير أول عدد منها ثم انسحب ليتفرغ لمتابعة الشأن السينمائي معنا في منطقة التصوير.

وعندما بدأنا تجربة سينمائية هامة في تاريخ الثقافة العراقية وهو فيلم «الحارس» أسندنا إليه مهمة مساعد المخرج فصار يؤدي مهمته بإتقان ومحبة وصمت أيضا وتسلم في ذات الوقت مهمة ملاحظ الاستمرارية وهي مهمة سينمائية غاية في الصعوبة إلى جانب عمله كمساعد مخرج. تأتي الصحافة لتغطي أخبار تجربتنا السينمائية الرائدة في العراق ولم يكن يهتم أن يدلي بحديث أولا، أن تنشر صورته أو لا .. نراه منغمرا في عمله يأتي قبل الآخرين ويغادرآخر المغادرين شخص منظم، ملفاته محسوبة ويعرف كل صغيرة وكبيرة. أعطيناه دوراً قصيرا في الفيلم للذكرى حتى نؤرخه على شاشة السينما وفي الفيلم الحساس مثلنا ومثل رغباتنا وحقوقنا الثقافية المشروعة، لكنه كان إنسانا مختلفا عنا. يجيد بإتقان كبيرلغتين الإنكليزية والفرنسية إضافة إلى لغته العربية السليمة.

وعندما عصفت بنا الأحداث السياسية افترقنا فهاجرت أنا باتجاه لبنان ثم باتجاه اليونان حتى استقر بي المطاف في هولندا وصرت مواطنا هولندياً.

الرجل لا تفارقني صورته الجميلة ولا يفارقني حزنه ولا يفارقني عطاؤه الثر الغني. ذهب ليعلم التلاميذ في التلفزيون التربوي ويعتبر ذلك من مهامه الحياتية في الخير أنه يعلم الناس حتى يتواصل العطاء بين الأجيال.

عدت إلى العراق بعد زوال أسباب الهجرة وكانت عودتي وقتية للحصول على وثائق تثبت عراقيتي حيث خسرت كل أوراقي في طريقة الهجرة من الوطن واكتمل فقدانها عندما دخلت إسرائيل العاصمة اللبنانية بيروت وأخذت كل وثائقي وأفلامي.

انقطعت علاقتي بالعالم وبالدنيا وأصبت بالدوران والدوخة، إذ لم تعد بحوزتي مراجع ألجأ اليها من الأصدقاء والأحباب وفي خضم تلك الأزمة الشخصية لم يغب ذلك الرجل عن خاطري صدقا ولا لحظة واحدة.

حاولت جاهدا أن أعرف عنوانه، رقم هاتفه، المكان الذي يعيش فيه ولم أفلح. لأنه لا يظهر للعيان ولذا فالناس لا تراه.

اسمه «نجيب عربو» ينحدر من أصول في قرية جبلية قريبة من شمال العراق هي قرية «تل أسقف». بحثنا عنه فوجدنا على الإنترنت عددا كبيرا من الأسماء تشابه إسمه «نجيب عربو» وبدأنا الاتصالات معهم فلم يكن هو بينهم حتى رد علينا بالهاتف واحد اسمه نجيب عربو وعندما أخبرناه بأننا اصدقاء المسرحي والسينمائي نجيب عربو وفيما إذا كنت أنت المعني قال فهمت عليكم أنه ابن عمي. طلبنا رقم هاتفه فأعطانا الرقم ولكنه قال لنا.

أحيل ابن عمي نجيب عربو على التقاعد وعنده بيت صغير وقديم في القرية وهو إرث له من والده فجاء إلى البيت كي يعيش بقية حياته فيه وجلب مواد البناء ليرمم البيت الصغير على سفح جبل في تلك القرية فسقط فوق رأسه سقف البيت وهو الآن فاقد الذاكرة وحتى لو كلمتموه سوف لن يعرفكم هذا إذا تمكن أن يمد يده للهاتف ويرد على المكالمة.

لا أحد من المثقفين العراقيين في خضم الصراعات السياسية والمفخخات ولا من رجال الدولة ولا من أحد وقف إلى جانب هذا المبدع الحقيقي الذي يشبه «الديمة» وهي الغيمة التي تنث مطراً ناعماً بدون برق ولا رعد!

- هولندا k.h.sununu@gmail.com