Saturday 15/02/2014 Issue 428 السبت 15 ,ربيع الثاني 1435 العدد

ذاكرتان

لي مع أحمد الصالح ذاكرتان، إحداهما تخصه والثانية تسبقه، أما التي تسبقه فهي ذاكرة لي ثرية مع والده الأستاذ صالح بن صالح الرائد التربوي، الذي نشأت على يده جموع من المتعلمين شكّلوا أجيالاً متعاقبة منذ أكثر من ثمانين عاماً، أي من قبل نشوء الدولة السعودية الحديثة، حيث راد التعليم الحديث في عنيزة وصنعه على نموذج عصري متقدم نهل منه الكثيرون حتى جاء التعليم الحكومي، ووصل ما كان ابتدأ من قبل، فأدركت أنا وجيلي فرصتنا مع ذلك المربي الفذ والقدوة المجتمعية والتربوية، وكم هو معنى عميق ودال أن كتبت هذه المقالة ومن حولي خالي الذي توفي بعدما تجاوز المئة عام، وكان في طفولته تلميذاً عند الأستاذ صالح بن صالح يعلمه مادة تسمّى حينها بمسك الدفاتر، ويحدثني خالي عنها وهي مادة من مواد الإدارة وعلم التجارة والسكرتارية وهذا مسمّاها في ذلك الوقت، كما تفيض ذاكرة خالي بقصص عن معلمه تماماً كما تفيض ذاكرتي بمثيل لها، وفي النية بحول الله كتابة هذا الطرف من الحكاية في كتاب أخطط للعمل عليه.

تلك ذاكرتي السابقة عن أحمد الصالح، كونه سلالة ذلك الأب الذي هو أب لنا كلنا ونحمل بصمته علينا كلنا، كما على أجيال سبقتنا وبعض جيل لحقنا.

وتأتي ذاكرتي الثانية مع أحمد الصالح، وكانت ابتدأت بصيغة درامية، حيث ظهر في الستينات من القرن الماضي شاعر ينشر في الصحف تحت اسم (مسافر)، وكان شعره لافتاً واسمه لغزاً، وفي شعره طراوة وحداثة ذات نكهة خاصة فيها لغة رشيقة ومفردات متموجة بحس يجمع بين الرومانسية الشفيفة والصور المتحركة والإيقاع الحر، وكان نموذجاً مختلفاً عن النماذج الشعرية التي تعم في صحافة ذلك الوقت، حتى لكأن صاحبها هو كل واحد منا في تلك المرحلة، ينطق باللغة التي لو نطقنا نحن شعراً لكنا حاولنا أن نقول مثله، كما أنه يلامس المعاني الدقيقة المخبوءة في نفوسنا، ويبوح بكلماتنا المحبوسة في مخيلتنا وكذلك كانت موضوعاته وصوره وأخيلته، حتى لكأنه نحن تجمعنا واخترنا أسماءنا ومخيلاتنا تحت تسمية صارت تبرز أمامنا هي: مسافر.

أخذنا هذا الاسم معه حتى صرنا نرقب مواعيد الجريدة لنقرأ لمسافر ونحن في العمق نقرأ لأنفسنا، وظلت الأيام تمر حتى طاف عام ونصف عام، وحصل أن كنت مع شاب بسنِّي يعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية، ولم يك لي به معرفة من قبل حتى إذا ما عمر الحديث بيني وبينه وعلم مني أنني من عنيزة، قال لي دون تمهيد: عندكم شاعر مذهل اسمه أحمد الصالح، وهنا تعجّبب وقلت له إني لا أعرف شاعراً بهذا الاسم، وظننت أنه قد خلط بين أسماء شعراء عنيزة وهم كثر حينها، وتداخلت عليه الأسماء، لكن صاحبي واصل كلامه ليكشف لي سراً ما كان له أن يكشفه لولا تساوق الحديث بيننا واطمئنانه لي، حيث كشف لي أن أحمد الصالح زميل له في العمل في تلك الوزارة، وأنه هو من يرمز لنفسه بمسافر.

أحسست حينها أنني وضعت يدي على سر ثمين، ولكني احتفظت بالأمانة ولم أفش سر الاسم إلى أي شخص من محيطي، مع شدة التشوُّق وكثرة الأسئلة بين معارفي عن صاحب هذا الاسم، لدرجة أنني أعرف أشخاصاً كانوا يسمحون لنوع من الشائعات بأنهم هم أصحاب ذلك الشعر، وكان أحد زملائنا يتشكى في المجالس ويقول: ويلي من أولئك الناس الذين يتهمونني بأنني أنا مسافر، والحق أنه لم يقل أحد ذلك عن صاحبنا ذاك ولكنه هو كان معجباً بشعر مسافر ـ مثلنا كلنا ـ، ولكن إعجابه مضى به إلى ما هو أكثر حتى صار يمني نفسه بهذا الشرف.

وهي في الواقع صورة لحالة استقبال شعر مسافر في بيئتنا كلنا، حيث كان فعلاً ذا وقع عميق على الكل ولافتاً للدهشة والانتباه، وكان حديث كل مجلس وموضوعاً لكل المناقشات.

ومرت فترة والاسم سراً (إلاّ عندي دون أن أفشي بذلك تاركاً الحق لصاحب اللقب، خاصة مع ما له في نفسي من موقع بسبب الذاكرة السابقة عليه وحق والده عليّ، فصرت كأنما أحمي فلذة كبد الأستاذ المربي ولا أخون أمانة حقه عليّ ومنها الحفاظ على سرِّ ولده)، انكشف السر بعد ذلك بموافقة من الشاعر نفسه، ولكنه ظل يستخدم اسم مسافر على قصائده وظل الوهج مستمراً، ويتصاعد مع كل نص جديد، وظلّت قصيدته علامة على مرحلة شعرية كنت سمّيتها بالموجة الحداثية الثانية في تجربتنا الثقافية، حيث كانت الأولى مع العواد والثانية مع أحمد الصالح، ومجموعة الشعراء محمد العلي وسعد الحميدين وعلى الدميني في موازاة مع فوزية أبو خالد، وهم جيل الموجة الثانية قبل ظهور الموجة الثالثة مع النظرية النقدية، وتوسّعت في هذا في كتابي حكاية الحداثة.

ومضت التجارب والإبداعات ليتصنع لأحمد الصالح ذاكرة ثالثة تعيش معي وتصحبني، وذلك مذ صار مادة تطبيقية مع طلبة الدكتوراه عندي في توظيف قصائده كمادة للتشريح النقدي وتطبيق النظريات النقدية عليها في مادة (نظريات النقد المعاصر)، وهناك عمر مسافر ساحة قاعات الدرس والبحث والتشريح المعرفي والنقدي والثقافي لساعات أحصيتها مرة، وتبيّن لي أنها تجاوزت المئتي ساعة في فصول دراسية تتعاقب وتتواصل معمورة بحثاً ودرساً ومناقشة وتعرفاً على قدرات النص على التفتُّح، والتحوُّل والعطاء.

تذكّرت أستاذنا الشيخ صالح بن صالح ـ رحمه الله ـ وكيف عبر بعلمه وفضله كل حدود الأجيال وتعلّم علي يده أناس تعاقبوا زمنياً وتناسلوا معرفياً، ثم أقارن ما فعلته قصائد مسافر من تعاقب جيلي بين أجيال القراء متذوّقي الشعر في الصحف، إلى النقاد المتفاعلين مع المعطى الشعري والإبداعي، إلى الشعراء المتعاقبين والمتجايلين الذين يقرؤون القصائد ويتماهون معها، ثم يأتي بإثر الكل جيل وأجيال من الباحثين والدارسين، حيث يجدون أنفسهم مع مسافر كما وجدنا أنفسنا فيه حين ظهوره، ويستمر مسافر يصنع ذاكرة إبداعية تجري بإثره وتخط بقلمه وتقرأ بأنفاسه، ويصبح هنا رمزاً مسافراً بين الذواكر وصانعاً لمخيلة التلقّي والقراءة والتذوُّق.

هذه بعض من صور مسافر في مخيلتي وهي نموج لمخيلات تتناسل جيلاً بعد جيل.

- عبد الله محمد الغذامي