Saturday 15/02/2014 Issue 428 السبت 15 ,ربيع الثاني 1435 العدد

الشاعر النبيل ..

عندما راسلني الدكتور إبراهيم التركي طالباً المشاركة في الحديث عن الشاعر أحمد صالح.. أرسلت عتباً قلت فيه لماذا لم تبلغني إلا في هذا الوقت الحرج، « فأبو محمد» يستحق منا الكثير.. ولقد شعرت بحصر، و حصار شديد، فكيف لي أن أكتب عن «المسافر» في وقت ضنين و حرج كهذا..؟ فسامح الله حبيبنا إبراهيم، و ليعذرني « شاعرنا» إذا جاء الحديث عنه قصيرا، و مبعثرا، و مبتسراً، فهذا الحديث يكتب تحت خيمة من خيام الصحراء، والتي ربما ساعدت على مدّ البصر قليلاً نحو أفق الصحراء... و هو العاشق، المتيّم بها، و ببيدها، و نجومها، و نفلها، و جعدها، و خزاماها، حيث نقل هذه المشاهد الجمالية و هذا العبق، الأسطوري، و تمثلها، فجاءت جزءاً من تكوين و نسيج قصائده الرائعة البهية... ففي في شعر « أحمد» ملامح من سحر الصحراء، من ضوئها، و تجلياتها البيئية البهية، فتسمع في شعره حداء الركبان، و غناء السمار و الرعاة، فيه أصوات القطا، تهتان الامطار، و حنين الإبل، و تصاهل الخيل، سوف ترى فيه آماسي و أصائل الغروب، و ضوء القمر، و جَوّاد المناهل، و دروب الفرسان.. ستشم فيه رائحة الشيح و العرار، و القيصوم..

«فمسافر» يكتب بهذا المزيج من المداد الملون من طينة الأرض و من عبقِها، من سطوع أصباحها، و أضاحيها، لم يخرج بفنه عن بيئته، و لم يكتب بمداد غيره، لم يحاول اعتساف ابداعه، ليكون صورة قادمه من بعيد، من خارج البيئة، و التضاريس.. أبداً فإبداع أحمد ممتزج برفات الارض، برفات شعرائها، و فرسانها، و كرمائها، و بما تركوا من تراث رائع، و مبهر.. فجاء عطاؤه منسكباً من تلك البحيرة الصافية التي تنام في أحضان الرمل، و النخيل و تغفوا في أجفان القمر، و العشاق.. و في شعر أحمد عذوبة و جمال، بل و فيه فروسية و نبل.

فهو الشاعر العاشق، ذلك العشق المتجذر في القلب و العظم.. هو عشاق للحياة، و الانسان، و البيئة، عاشق للعدل ، و للخير، و للحرية، و الكرامة.. رافض للقبح، و الظلم، و الغشش، و الفساد.. كما أن عروق قصائده تنبض بالوطنية، و الغيرة و الحمية.. تشعر أنه يحمل هموم أمته، و أن مواجع هذه الأمة تصطرخ في أعماق روحة.. فلم يكن الشعر عند أحمد، ترفاً، أو مباهاة، و لا بحثاً أو تصيداً للشهرة.. بل الشعر عنده - مع كونه إبداعاً - رسالة سامية، و أداة فاعلة للتعبير عن فرح الانسان، و حزنه، و انكساره، و مأساته... هذا هو «أحمد» و شعر أحمد.. حيث يتداغم، و يتناغم مع موهبته، و فنه ليشكل، و يجسد الانسان الشاعر ممتزجاً بإبداعه كلوحة فنية ذات لون بهي و فريد ...

سوف تجد الحزن متشابكاً مع الفرح.. و الصخب ملتحماً بالهدوء.. و الحنين مدفوناً في ذاته كجدول يتدفق تحت الرمل و الصخور.. أو كوشل حبّات المطر حين تهطل من سعف النخيل في ليلة غيث شتوية.. و لهذا لن تستغرب أن تنزّ روحه الإبداعية، و تهمي بهذا الابداع الصافي، كما هتنت «طرفاء» الصمة القشيري، حينما ناشتها هبوب الجنوب.

** ** **

هكذا قدر لي أن أكتب هذه العجالة تحت خيمة، أظنها ليست بعيده عن ربع «مية» و أطلالها التي هام بها شاهر الحب و الصحراء غيلان « ذو الرمة» حين قال:

وقفتُ على ربعٍ لميَّة َ ناقتي

فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُه

وَأُسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبِثُّهُ

تُكلِّمُني أحجارُهُ وملاعبهْ

و ما أشبه شاعرنا بـ» غيلان» ذلك الشاعر العظيم الذي أوقف فنه على محبوبته، فلم يمدح كثيرا، و لم يهج كثيرا، و لم يتاجر أو يتكسب بفنه..و «مسافر» أوقف شعره على شعره و فنه على فنه.. فلم يتكسب و لم يجازف به، فينافق إعلاماً زائفاً أو يشحذ ناقداً مترصداً متاجراً بنقده، و إنما كان عزوفاً عن تلك الشعوذات، مؤمناً أن صوت الابداع أقوى من البهرجة و الدجل،و الزيف..

أقول إنني في هذه العجالة التي فاجأني بها حبيبنا إبراهيم ربما شفيت شيئاً قليلا مما في نفسي أذ لم تفتني المناسبة.. و لكنها بكل تأكيد لم تنطق بالكثير مما لدي عن هذا الشاعر الكبير في فنه و إبداعه... فليعذرني «أبو محمد» فهو أدرى الناس بإعجابي بفنه و ابداعه، و بنبله و خلقه الرفيع.

- عبدالله الناصر