Saturday 15/03/2014 Issue 432 السبت 14 ,جمادى الاولى 1435 العدد

البحث عن إيقاع عربيّ للشِّعر

الذي يتأمّل خريطة الشعر العربي هذه الأيام سوف تفجعه حالة الاغتراب الكاسحة، أو التغريب على وجه الدقة التي تعاني منها النصوص. فثمة نصوص كثيرة مبثوثة هنا وهناك، تحلّق بعيداً خارج سياقها الزماني والمكاني، حتى لتبدو مكتوبةً عن أناس آخرين وأمكنة أخرى لا تمُتّ إلى مدننا وقرانا التي نشأنا فيها. إنها مكتوبة بعين (استشراقية) أكثر من كونها مكتوبةً بعين الشاعر العربي سليل الدم واللثغة العربيين، والطين المعجّن بروائح السماء.

بالمقابل هناك نصوص تحاول أن تتماسك في مثل هذا الزمن المُخاتل زمن الرمال المتحركة، وتحاول أن تمدّ جذورها إلى أعماق الأرض والتاريخ. ومع أنها قليلة إلا أنها عملت على إغناء حياتنا ومنحتْها نكهةً وطعماً مميّزين. إنها تبث فينا روح التمرد في كل مرة وتجعلنا باستمرار قادرين على الحلم.

كان للعواصف الضّارية التي هبّت على الوطن العربي في العقود القليلة الماضية آثارها العميقة على البنى الاجتماعية والسياسية السائدة. وامتدت لتطال كل شيء ابتداءً بمفهوم المواطنة وانتهاءً بمفهوم الدولة. ومع نهايات القرن العشرين اجتاحتنا رياح العولمة التي باتت ترجّ القناعات من أساسها وتُطيح بكل شيء في طريقها. كان من الطبيعي أن تجد هذه المتغيرات صداها الكبير في الفن. وتنعكس على النص الشعري المكتوب. ولعل الانتشار الهائل لقصيدة النثر بكل ما فيها من تنوع وابتكار واضطراب وجنوح نحو المغامرة يمثّل مظهراً من مظاهر هذه التغيرات التي طرأت على الشعر. وإذا كانت التحولات التي وقعت أواخر الأربعينيات من القرن الماضي قد تمخّضت عن ولادة موجة الحداثة الشعري العربية الأولى، فإن مجمل ما وقع في العقدين الأخيرين، قد هيأ الظروف لولادة الموجة الثانية من موجات هذه الحداثة، مع فوارق جوهرية في الحالتين. ففي الموجة الأولى برز التبشير بالمستقبل كملمح أساسي من ملامح الشعر الجديد في تلك الأيام. أما في الموجة الثانية فقد سيطرت نبرة الألم الجارحة والإحساس الطاغي بالهزيمة على مجمل الأعمال المكتوبة.

من الاختلافات الأخرى التي نجدها بين الحالتين هو ما يتعلق بظهور آباء شعريين، أو (روّاد) كما تمّ تسميتهم في الموجة الأولى حيث كانوا بمثابة نوى يتحرك حولها الشعر، وعدم وجود هذه الأبوّة في الموجة الثانية. فليس هناك من شاعر (فذ) يجري تقليده أو الدوران في فلكه كما كان عليه الوضع في المرة الأولى. الاختلاف الجوهري الأخير كان في ظهور رؤيتين مغايرتين لمعنى الشعر ليس كشكل فقط وإنما كنوع أدبي أيضاً. ففي الموجة الأولى ظلّ الشعر الجديد مجاوراً للشعر السابق على الرغم من حالة الثورة التي أعلنها ضده. في الموجة الثانية حدثت قطيعة شبه تامة مع الشعر السابق أدت إلى انكسار حدود النص الشعري والاتجاه به إلى مشروع النص المفتوح.

هذه الشعاب الجديدة التي سلكها النص وَلَّدَت عدداً كبيراً من الإرباكات أو المطبّات، وفتحت المجال واسعاً هذه المرة لدخول طراز جديد من الشعراء هم في واقع الأمر مثقفون أو قرّاء أو متذوقون للشعر. لقد اختلط ما هو جيد بما هو عادي ورديء. سهولة النشر زادت الأمور تعقيداً. غياب أثر النّقد ساهم في مفاقمة المسألة. الإنترنت والمواقع الإلكترونية فتحت الأبواب على مصاريعها لتلقّي هذا الفيض الهائل من النصوص. نتيجةً لكل ذلك انطفأت جذوة الشعر، عطب ما أصابها في الصميم.

في هذه الأثناء جرى الاحتفاء بالنصوص الشعرية المترجمة إلى الدرجة التي أصبحت فيها هذه النصوص بمثابة مرجعية جديدة للقصيدة العربية بدلاً من قصيدة التراث العربي أو (الماضي البائد)، كما يحلو للبعض أن يسمّيها! وما هي إلا سنوات قليلة حتى غزت الصحف والمجلات تلك النصوص الهجينة الخالية من الروح. في هذه الأثناء صار الواحد منّا يقرأ قصيدة للشاعر العربي (س)، فلا يُحِسّ بأجواء اجتماعية أو ثقافية عربية فيها، بقدر ما يحسّ بأجواء المدن والمجتمعات الغربية، الأوروبية والأمريكية. حتى أنّنا نجد أنّ بعض النصوص الشعرية قد جرى تزويقها بعدد من المفردات الإنجليزية والفرنسية!

لا يكمن الخلل في محاولة الاستفادة من شعر الشعوب الأخرى، الذي هو في النهاية جزء من مشاع إنساني كبير. بل على العكس من ذلك إن الذهاب إلى هذا الشعر واستيعاب فيوضاته ومكنوناته بشكل سليم يلقّح شجرة الشعر العربية بثمار جديدة. غير أن الارتهان لصورة هذا الشعر التي تتمّ من خلال الترجمة سوف يُحدِث نتائج عكسية، خاصةً ونحن نعرف إن النص المترجم هو نص آخر غير النص الأصلي، ويعتمد على الموهبة التي يتمتع أو لا يتمتع بها من يقوم بالترجمة.

إن الشعر لا ينبت في الفراغ. وإن مسألة القطيعة السابقة ربما كانت ممكنةً على المستوى النظري ولكنّها لا يمكن أن تتحقق في حال تطبيقها على أرض الواقع. والدليل على ما نقوله يؤكده ما حدث مع أولئك الشعراء الذين أقاموا القطيعة مع قصيدة التر اث. فلم يجد هؤلاء أمامهم بُدّاً من التأثّر بالقصيدة المترجمة. فكل ما حدث معهم يتلخص في أنهم استبدلوا مرجعيّتهم الأولى بمرجعيّة أخرى.

تقع على عاتق الشعراء العرب اليوم مهمة تخليص الشعر من غربته، والعودة به إلى تلك الينابيع الأولى التي تمنحه القدرة على الطيران ومعانقة الأبعاد. ولن يكون ذلك ممكناً إلا باللجوء إلى إرث الشعر العربي العظيم، وكتابة قصيدة ذات إيقاع عربي وألوان عربية وروائح عربية بكل ما تحمله العبارة من معنى. ففي هذه المنطقة من العالم تكمن (روح الشرق) التي هي روح عربية بامتياز حيث سبق لها أن أبدعت كل شيء وقدمت نسغها الحي للإنسانية عبر العصور. وينبغي علينا أن نتذكّر هنا أننا حين نتحدّث عن شعر التراث العربي، فإننا نتحدّث عن شعر يزيد عمره على ألف وخمسمائة عام، وعن قصيدة ورثت شعرية الحضارات القديمة جميعها.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com