Saturday 15/03/2014 Issue 432 السبت 14 ,جمادى الاولى 1435 العدد
15/03/2014

المخرج!

كان عمري على وجه التحديد ستة عشر عاماً، أي في العام 1956 وكنت أتمرن على دور في مسرحية «لو بالسراجين لو بالظملة» التأليف ليوسف العاني والمخرج توفيق البصري، وهو مخرج مسرحي في مدينة البصرة. كنا متوجهين نحو مسرح نادي الاتحاد، للتمرين على المسرحية. سألته وكانت الكلمة تشغلني، ما معنى كلمة «المخرج» من أين جاء بها القاموس العربي والثقافة المسرحية والسينمائية لم تكن معروفة لدينا، فانتبه وحاول أن يجيبني فتلعثم؛ إذ لم يكن قد فكر بها. وبقي معنى هذه الكلمة يشغلني حتى يومنا هذا؛ إذ لم أكن مقتنعا بهذا التعبير العربي الذي يعني المبدع والذي يدير العمل بل ويراه بعين الوعي والتفسير، لكن تعبير المخرج لا ينطبق على هذه العملية الإبداعية في مجالي المسرح والسينما.

أحاول أن لا أستعمل الكلمة في أفلامي السينمائية ولكن واقع المؤسسات والإنتاج يفرضان وجودها. الفرنسيون باتوا يكتبون في كثير من الأحيان «فلم لـ... « والإيطاليون يدونون أحيانا مثلا «أوديب بازوليني» أي قراءة بازوليني لأوديب صفوكلس.. وهكذا، العالم المثقف والمشغول بهوس الثقافة السينمائية هو الآخر غير مقتنع بالتعبير الإنكليزي « Directed by» فالعملية لا تتمثل بإدارة العمل لأنها عملية إبداعية والعرب يحاولون قومسة الألفاظ لما يظهر في العالم ويستعملونه مثل ما قيل عن السندويتج «الشاطر والمشطور والكامخ بينهما» أو مثل ما ترجم القذافي السينما بالخيالة، ومرة أجروا معي مقابلة في مجلة ثقافية ليبية وأبدلوا كل كلمة سينما بكلمة خيال فكنت أنا المخرج الخيالي ومؤسسة السينما أصبحت مؤسسة الخيالة وبعد أن قرأت المقال ظننت بأني أعمل في ساحة لسباق الخيل!

يبقى السؤال كيف ترجم العرب كلمة مبدع العملية الثقافية المرئية بالمخرج، ودائما أشعر بالأسى وأنا أرى اسمي مخرجا وتوضع الكلمة قبل اسمي مرغما فأستنجد بالنسخة الإنكليزية لأكتب «A Film by»

الحديث ليس عن الكلمة بحد ذاتها فحسب، بل أيضا عن مضمونها وهو الحديث الأصعب والأكثر تعقيدا والأكثر أسى.

الشخص الذي ينجز العملية الثقافية المرئية هو شخص غير عادي أبداً، فالسينما هي الفن السابع، لأن العمارة والموسيقى وهما أعظم الفنون، مع مكملاتهما من فنون الرسم والنحت والشعر والإيقاع، يكونون الكورال سداسي الإيقاع، للحلم الجمالي على مر العصور. لذا فشخصية المبدع السينمائي الذي ينجز العملية الثقافية المرئية ينبغي أن يتمكن من هذه الثقافات ليعرف كيف يختار ممثليه ومدى تطابق شخوصهم مع الشخصيات المرسومة، وكيف يختار النص وكيف ينتقي كاتب الحوار وأحيانا كيف يكتبه بنفسه أدبا وفنا ثم كيف يحلل الحدث وكيف يحرك الكاميرا والشخوص، وكيف يعلم الممثلين أداء الشخصية وحوارها، ثم قدرته على التشكيل داخل الكادر وإحساسه في اختيار اللون وهارموني الألوان في العمليات الفنية اللاحقة، حينها يتحول إلى شخصية في حلم التكوين الإنساني وهي عملية صعبة ومعقدة، ولذا فمبدعو السينما قلائل ويكادون أن يعدوا على أصابع اليدين وأكثر بقليل، أما ما ينفذ ونراه على الشاشة فهو ليس سوى صور متلاحقة ملصقة ببعضها تنقصها الروح السيمفوني وهي الأهم في العملية الثقافية المرئية.

دائما أتمنى أن أعمل فيلما سينمائيا يرتقي إلى مستوى الموسيقى السيمفوني التي لا تقبل الخلل ولا النشاز إذ إن حركة وتر في غير لحظتها تخدش السمع والحس وحتى البصر. وهو أمر صعب إذ إن ذلك يحتاج إلى أولا ثقافة متكاملة للمبدع وثانيا يحتاج إلى حرية للمبدع وثالثا يحتاج إلى ظروف إنتاج حقيقية.

الشخصيات المتألقة في تاريخ السينما أصبحت أسماء تثير شهية المنتج وتثير شهية المتلقي فيحصل المخرجون المتألقون على فرص حقيقية لتنفيذ الحلم الثقافي في هذا الفيلم أو ذاك.

مرة حلمت بأن أخرج فيلما مستقاة أحداثه من الحكايات العراقية في ألف ليلة وليلة، وبقيت الفكرة في إطار الحلم فالتقيت المخرج الإيطالي بازوليني في بيروت بعد أن وجهنا له دعوة لعرض أفلامه في نادينا السينمائي، وكان يمتلك ذات الحلم أن يخرج فيلما مستقاة أحداثه وأفكاره من ألف ليلة وليلة. سألني أن أساعده في اختيار مواقع التصوير التي أعرفها في شرقنا الذي يعتقده حالما، وكنت صورت ناطحات السحاب في حضرموت في اليمن الجنوبي سابقا أو جنوب اليمن لاحقا، صورتها كي أظل أحلم بها كموقع لتصوير فيلمي «ألف ليلة وليلة» فقدمت الصور إلى بازوليني واندهش، وطلب أن يزورها فمسكت الهاتف وهاتفت وزير ثقافة اليمن حينها «عبد الله با ذيب» وطلبت منه أن يقدموا الدعم والمساعدة لبازوليني كي ينجز مشروع فيلم «ألف ليلة وليلة» وهو ما حصل وتم إنجاز الفيلم وتحول حلمه إلى فيلم فيما بقي عندي مجرد حلم تبدى.

بازوليني لم يكتب على فيلمه «ألف ليلة وليلة من إخراج بازوليني» بل كتب المنتج على الفيلم «ألف ليلة وليلة بازوليني» أي هي حكاية الملحمة المتخيلة كما يراها بازوليني أو كما يفسرها بازوليني.

على شاشاتنا العربية صور متحركة تسمى مجازاً أفلاما وهي مليئة بالثرثرة لا يعرفها ولا يشاهدها فايدا ولا بيرجمان ولا أيليا كازان ولا يعرفها متذوقو هذا الفن في العالم.

نحن حتى ننجز أفلاما تعبر بعمق وجمالية متألقة عن الواقع نحتاج إلى حرية «مفقودة» وإلى استقرار «مفقود» وإلى ثقافة «مفقودة» في حقل ثقافي من أصعب وأجمل الحقول الثقافية في التاريخ الإنساني، والتي أطلقوا عليها «الفن السابع» هذا الفن الذي يحتاج إلى مبدع وليس إلى مخرج!

- هولندا k.h.sununu@gmail.com