Saturday 15/03/2014 Issue 432 السبت 14 ,جمادى الاولى 1435 العدد
15/03/2014

(الموت) في التراث الشعري «2»

ويبدو أنَّ خاصية (الموت) في (المفاجأة) و(العشوائية) - في نظر الشاعر الجاهلي - جعلت إحساسه بقسوته مضاعفاً، فهو يدرك تماماً أنه لا يمكن لأحد معرفة مكان موته وزمانه، يقول (متمم بن نويرة):

لا بُدَّ من تلفٍ مقيمٍ فانتظرْ

أبأرضِ قومِك أم بأخرى المصرعُ

وليأتينَّ عليك يوماً مرَّةً

يُبكى عليك مقنَّعاً لا تسمعُ

ويتصوره شاعرٌ آخر كناقةٍ (عشواء) لا تبصر، تطأ الثرى على غير هدى، قد أفلتت من عقالها، فمن تصبه يموت، ومن تخطئه تتاح له الفرصة في إكمال مسيره في هذه الدنيا حتى يبلغ مرحلة الهرم:

رأيت المنايا خَبْط عشواء مَن تُصِبْ

تُمتهُ ومن تُخطئ يُعمَّر فيهرمِ

غير أنَّ (النجاة) من هذه الناقة هي في الحقيقة نجاة إلى (أجلٍ غامض)، لكنه آتٍ لا محالة، فالإنسان يعيش موتاً (مرجأ) أو (معلقاً)، فإذا نفد (كنز العمر) انقاد بـ(حبل المنية) إلى حتفه كما يرى (طرفة بن العبد):

أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة

وما تنقص الأيامُ والدهر ينفدُ

لعمرك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى

لكالطِّوَلِ المُرخى وثِنياهُ باليدِ

متى ما يشأ يوماً يَقُدْه لحتفِهِ

ومن كان في حبل المنيَّة ينْقَدِ

إن من يتأمل في نصوص القدماء حول مشكلة (الموت) يرى أنَّ معاني (الفقد) التي تتكرر فيها معانٍ (أصيلة)، (منتشرة) في كثير منها، ويدرك أنهم لم يكونوا يرثون شخصاً معيناً، بل كانوا يرثون (الحياة الإنسانية) بكاملها.

حتى بلغ الشاعر الجاهلي مرحلة (الإنهاك) وهو يفكر في هذا الشبح المرعب، فعزم على بحثٍ حائرٍ لأسراره، مما قاده إلى (مراجعة) ما كان يتصوَّره ويعتقده حول هذه المشكلة مراجعةً يتبادلها (الشك) و(اليقين)، ويتعاورها (النفي) و(الإثبات).

وحين أحس الشاعر القديم أنَّ (الموت) من أكبر مفسدات (الحياة) أصابه (الروع)، فلا أقسى من أن يشعر عاشق (الحياة) بنفاد العمر، ويدرك أنَّ النعيم الذي يتقلَّب فيه ليس سوى طيف كرى يخاتله، كما يشير إلى ذلك (الأسود بن يعفر):

فإذا النعيمُ وكلُّ ما يُلهى بِهِ

يوماً يصيرُ إلى بِلىً ونفادِ

إنَّ من يستكنه نصوص الشاعر القديم في حديثه عن (الموت) يلحظ أنها تشير بوضوح إلى شعوره بتفاهة (الوجود الإنساني) الذي يتلاشى أمام (الموت) المدمر، ومع أنَّ هذا الإنسان المسكين يتمتع بما ورثه من مال أو جاه إلا أنه لا يزيد عن كونه (بعوضاً) في الضعف والتفاهة كما يراه (الحارث بن حلزة):

بينا الفتى يسعى ويُسعى له

تاه له من أمره خالِجُ

يتركُ ما رقَّح من عيشِهِ

يعيثُ فيه همج هامجُ

لقد أفصحت نصوص الشاعر الجاهلي عن إحساسه العميق بـ(الحسرة) و(الألم) و(المرارة) حين يكون الحديث عن (الموت) أو التفكير فيه؛ لأنه كان يراه (فناءً مطلقاً) يُدمِّر ما قبله تدميراً كاملاً، وما بعده ليس سوى أن يصير المرء تراباً تحت كومةٍ من حجارة، وظلت هذه (الحسرة) حتى جاء (الإسلام) الذي غرس في النفوس مفهوماً جديداً للموت، فأضحى (جسراً) يُعبَر من خلاله من حياةٍ سابقةٍ (فانية) إلى حياةٍ جديدةٍ (خالدة)، وبهذه النظرة أنقذ (الإسلام) النفس الإنسانية من شقاء التفكير في (عبثية) الحياة، ومن إحساسها الفاجع بـ(الفناء المطلق)، وداواها من (جراح الدهر) الذي كانت تعاني منه نفوس الجاهليين كما يقول (عدي بن زيد):

ثم بعد الفلاح والملك والإمَّ

ة وارتهُمُ هناك قبورُ

ثم أضحوا كأنهم وَرَقٌ جفَّ

فألوتْ به الصَّبا والدَّبورُ

هذه هي حقيقة (المصير الإنساني) القاسية كما يراها الشاعر القديم حيناً، إنها ليست سوى ورقٍ يابسٍ تافهٍ لا قيمة له، تعبث به الريح، لا أحد يسأل عنه، ولا يساوي شيئاً، وحيناً يراها صورة (شهابٍ) خاطف سرعان ما يختفي كما يقول (لبيد):

وما المرءُ إلا كالشهابِ وضوئِهِ

يحورُ رماداً بعد إذْ هو ساطِعُ

ومثله قول (عدي):

ولكنْ كالشهاب سناه يخبو

وحادي الموت عنه ما يَحارُ

ولأنَّ هذه النظرة قد ترسَّخت في (التراث الشعري) فلا غرو أن يؤكِّد الشعراء على ضرورة أن يواجه الإنسان (الموت) بالحرية والشرف حين لم يتمكن من نيْل (الخلود)، فهذا (تأبط شراً) ينشد في رثاء (الشنفرى) بعد أن ذكر جملة من محاسنه:

وأجملُ موتِ المرء - إذ كان ميتاً

ولا بُدَّ يوماً - موته وهو صابرُ

وهذا (الحصين بن الحمام المري) يفضِّل (الموت) على (العار) في قوله:

فلستُ بمبتاعِ الحياة بِسُبَّةٍ

ولا مبتغٍ من رهبةِ الموتِ سُلَّمَا

أما (المتلمس) فقد آثر (الموت) الحر الذي سلم من (العار) على حياة (الظلم) و(الذلة)، ويدعو إلى ذلك بقوة:

فلا تقبلنْ ضيماً مخافةَ مِيتةٍ

ومُوتنْ بها حُرَّاً وجِلدُكَ أملسُ

إنَّ هذه النصوص وأمثالها تصوِّر (مواجهةً مضمرة) بين (الشاعر) و(الموت)، وتعبر عن استهانة الأول بالثاني، وسعيٍ إلى الاستعلاء عليه، كما يؤكد ذلك (أبو ذؤيب):

وتجلُّدي للشامتينَ أريهُمُ

أني لريبِ الدَّهرِ لا أتضعضعُ

غير أنَّ ذلك لا يمكن أن يخفي ما فعله (الموت) بالشاعر القديم، حين أرهقه وكدَّر صفو حياته، فظهرت له هذه الحياة موتاً بهشاشتها وضعفها، وأخطأت روحه الطريق إلى (الخلود)، وغابت عنه تلك الحقيقة التي جلاها الإسلام بعد ذلك، حيث إنَّ (الخلود) المتاح للبشر الفانين ليس (خلود الجسد)، لكنه خلود من نوع آخر، إنه (خلود الروح)، فاستمرَّ يسير فوق شوك (العجز)، ويتجرَّع مرارة (القنوط)، ويرثي (الوجود الإنساني).

- الرياض omar1401@gmail.com