Saturday 15/11/2014 Issue 451 السبت 22 ,محرم 1436 العدد
15/11/2014

رسائلُ الياسمين إلى الرياض

سلامي عليك يا رياض، سلامي على ماضيك وحاضرك وترابكِ وبيوتكِ وأبوابك الخشبية وبواباتك، سلامي على طيركِ ونخلِك وأهلكِ، سلامي على شيبكِ وشبابك، رجالكِ ونسائك، سلامي على كلّ من جاءك فاستقرّ، وعلى كلّ من مرّ بك ليحقّقَ حلماً وعبَر.

سلامي على سمائك وأرضك ومائك، وسلامي على واديكِ وطينكِ وطرزكِ المعماريةِ ودفءِ أحيائك.

سلامي على بسطائك وأثريائك، والسلام السلام على شعرائك من أعشى منفوحة الذي كان أولَ من صوّركِ ودوّنكِ في التاريخ وهذي وثيقتُهُ وقد كُتبت بماء الذهب، وعُلقت على أستار الكعبة:

ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعشبة

خَضرَاءُ جادَ عَلَيها مُسْبِلٌ هَطِلُ.

يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ

مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النّبْتِ مُكْتَهِلُ.

يَوْماً بِأطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَة

ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ.

إلى أحدث الشعراء الذين عاشوكِ وأحبوك وقضوا العمر بين يديك، فهذا حبيبك غازي القصيبي الذي قضى جلّ عمرِهِ يهذّب صحوكِ ويرتّب ملابسكِ كيما تكوني أبهى وأرقّ وأجمل، يتغزّل بحبيبتهِ عبر ليلك وجدائلك وحنّائك:

وفاتنةٌ أنتِ مثلَ الرياضْ

ترق ملامحها في المطرْ.

وقاسيةٌ أنتِ مثل الرياضْ

تعذّبُ عشاقها بالضجرْ

ونائيةٌ أنتِ مثلَ الرياضْ

يطولُ إليها.. إليك.. السفرْ

وفي آخرِ الليلِ يأتي المخاضْ

وأحلمُ أنّا امتزجنا

فصرتُ الرياضْ.

وصرتِ الرياضْ.

وصرنا الرياضْ.

أتتذكرين يا عاصمتي كما أتذكر حين احتضنتني طفلاً قادماً من أعالي الحجاز فأسكنتني في فلل الضباط، وعلمتني في مدارس الأبناء، فالفيصل، ثم قلت لي سافر للعلم، ستعود لي يا محمد، وعدت وما غادرتك من بعدُ قط.

بعض المدن يا سيدتي مهما بدت قاسيةً من الخارج، حادة الطباع، متطرفةً في الطقس، تملك قلباً حانياً كالأمهات والآباء من العصاميين الأوائل في قسوتهم الظاهرة على أبنائهم، بينما دواخلهم أنهار محبةٍ وحنان، لكنها تجاربهم، وحياتهم الصعبة، وصبرهم والعناد.

إيه يا رياض مضى من العمرِ عمرٌ وأنا بين جانحيك طفلاً لا يريد مغادرةَ عشّه، بل هو لا يريد أنْ يكْبر، ولكنه كبر في أفيائك وهو يراقبك تكبرين.

ما كنتِ كما أنتِ اليوم، ولا كنتُ كما أنا اليوم.

عدتُ إليكِ رومانسياً حالماً، فعلمتني في مدرسةِ حياتِك الواقع فغيرتِ حياتي، وعرّفتني على تنوّع نخبك ومثقفيك وكتّابك وبسطائك، تنوعك المغري المثري، فتعلمتُ منك ما لم تستطع لندن بثرائها تقديمهُ لي، وحمدتُ ربي أني نهلت ثقافتي منك لا من غيرك، ورسّختُ جذوري فيك، فما انسلختُ ولا تهتُ ولا ملتُ، بل حافظت على هويتي وعربيّتي وعروبتي وجمال أهلي ونداهم وثباتهم وطيبتهم وطيبهم، وداومتُ على اعتزازي بسيفي وحرفي ونخلي.

كم من الوجوه قدّمتِ لي، بل قدمتني لها، فقد علمتني البساطةَ والتواضعَ كما علمتني العزة والكرامة، وربما، كي لا أبخسَ الناسَ أشياءهم، جلبتُ ذلك معي أيضاً من جيناتِ المدينةِ المنورةِ، وحارات الطائفِ الثرية البسيطة الفقيرة.

لقد دخلتُ باب صحافتكِ غضّاً، وما خرجتُ إلا وقد اشتدّ عودي، وبلغت أشدّي وقد صحبت فيك خيرة علمائك وأساتذتكِ في كل مجال، خيرة العقول العربية التي تجيدُ وتجود من رجالك ونسائك، خيرة ضباطك وأطبائك ومهندسيك، وخيرة من خططوا لك لتكوني درّةً بين المدن العربية يا فاتنة.

أعلمُ اننا تعثرنا هنا، وأخفقنا هناك، لكننا نخطيء ونتعلم فنصيب، المهم أننا جربنا وحاولنا، وها أنت على بابِ عمرٍ مختلفٍ جديد، وأجيالٍ جديدة متعلمة مبدعة خلّاقة من الشباب، هم وهنّ مصادر بهجةٍ واعتزاز وفخر.

أما عن أدبائك فلن تكفيني رسالةٌ واحدة لذكرِ فضلهم، وشكرِ معروفهم، فهم كثرُ، هم كوفرةِ خيرك، منهم من رافقني الدرب، ومنهم من أحببت عن بعد، منهم من لا يزال يجاورني، ومنهم من غادرني إلى الأبد، ومنهم من في الشدّةِ صاحبني وأعانني، ومنهم من احتضنتُ وآزرت، ومن كلٍّ تعلمت، لأنني التفتّ إليهم جميعاً فأحسنتُ إنْ كنتُ قد أحسنت.

إذا أيتها الحبيبةُ التي لا تشيب، يا جميلةً في الشروق ومهيبةً في المغيب، كيف لي أنْ أردّ جميلك وديْنك وما أغرقتني فيه من نعمِ الله التي لا تحصى؟

أشعراً؟!

قد فعلتُ، ولكنك قصيدة عمرٍ ولا يردّ ذلك دينك؟! أم نثراً؟!

من الممكن ذلك عبر دراسةٍ، أو كتابٍ، أو ربما روايةٍ، ولكنني فكرتُ فرأيتُ يا سيدتي أنّ تأثيرَ ذلك محدودٌ، وأنا أريدُ هديةً تدومُ وتدومُ، وتسكنك عالياً بين الغيوم، أو بين النجومِ فالعواصم الفاعلةُ الجامعةُ بين الماضي والحاضر في ماءٍ واحد، نجومٌ بالفعل على أرضنا.

منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أبحثُ يا ساكنتي، وقد اخترتُ هديتك، ولكن لم تساعدني الظروفُ على تغليفها لك، لأنني لم أجد الورق المناسب، ولا بريدٍ سريعٍ أثقُ به، رغم وضوح عناوينك، والذنب أصدقك القول ليس ذنب البريد، ولا ندرة الورق المناسب لك فقط.

المسألة أنني رجلٌ متردّدٌ ينتابني الخوفُ والحيرةُ أمام هذا النوع من الهدايا الثمينة، وكذلك الخوف أمام هيبتك وجمالك.

لكن لا بأس، فأنا سأشاكسكِ، وأنتِ السيدةُ المكتملةُ، كطفلةٍ الآن، كما كنتُ أفعل في بداياتي الشعرية، لذلك سأترك لك فسحةً من الوقتِ كما نفعلُ مع الأطفالِ لعلك تخمنين كالأطفالِ أيضاً ما هي هديتك، وخلفَ أيّ بابٍ تركتها لك.

أما الآن فسأتركك على حبٍّ وخيرٍ وشعرٍ أنت وأهلكِ في رعايةِ الله، وسأخبرك عن الزمان والمكان والهدية في رسالتي القادمة إنْ شاء الله.

- الرياض mjharbi@hotmail.com