Saturday 17/05/2014 Issue 438 السبت 18 ,رجب 1435 العدد
17/05/2014

رسائلُ الياسمين إلى إبي فراس الحمداني

وما ليَ لا أُثني عليكَ، وطــالما

وفيتَ بعهدي، والوفاءُ قليـلُ؟

وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني

صَفحتَ وصفحُ المالكينَ جميلُ

هكذا كنتَ دائماً، محبّاً طويلاً نبيلاً، تذكر الخير والخيّرين، والطيبة والطيبين، ولعلك رغم هذا رحلت ولم تنصف، ولم تأخذ حقك كاملاً، لكنك لا زلت مقيماً بيننا بنهر شعرك، وفرات حرفك.

عمّ أكتب لك يا أبا فراس؟ عن حزن الإنسان والشاعر والفنان، أم عن حزن الأوطان؟ عن أسوار وأسْر وأسرار وقسوة الإنسان الذي لم يتعلم، ولم يفهم بضيق صدره وأفقه المعاني العظيمة للحب والرحمة، أو معنى الإنسانية الرحب، أم عن ما يرسمه كل ذلك على وجه الأرض التي دمرها، وما مزق وأحرق من أوطان؟ عمّ أكتبُ، وأنت صاحب الأسْرِ والكرّ والفتوح؟!

الله كيف لو ترى يا ابن حمدان هذه الأوطان وهي تنوح بيننا كما ناحت حمامتك، أتذكر؟!:

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَةٌ

أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟

معاذَ الهوى ما ذقتُ طارقةَ النوى

وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ

أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ

على غصنٍ نائي المسافةِ عالِ؟

أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا

تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمُومَ، تَعَالِي!

تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحاً لَدَيّ ضَعِيفَةً

تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَالي

أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَةٌ

ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سالِ ؟

لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلةً

وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!

الله كيف لو ترانا في أتون الحرب، والناس بلا حبٍّ أو قلب، وأنت الشاعر العاشق الصابر؟!

أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ

أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ

ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ!

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى

وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ

تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي

إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَةُ والفِكْرُ

معللتي بالوصلِ، والموتُ دونهُ،

إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ!

حفظتُ وضيعتِ المودةَ بيننا

وأحسنَ منْ بعضِ الوفاءِ لكِ العذرُ

ولا بد من أن أخبرك هنا، أنّ قصائدك يتغنى بها الأهل في أوطاننا، من شرقنا إلى غربنا، ملحنة منغمة منعّمة.

أيفرحك هذا الصيت والخلود الشعري إذاً؟!

هل تشعر بالزهو والفخر؟!

أعلم أنك ستسألني قبل ذلك، ولكن تمهل، ولا تتعجل، سأخبرك لمَ انتقيتك، ولماذا أكتبُ لك أنت تحديداً؟! فالسرّ يكمن في حمامة، نعم حمامة بيضاء في سربها، مرت بخفق جناحيها في سمائي، ثم حطت على بعد شجرةٍ وفكرة.

كأنها كانت تحدثني بحركتها التي لا تهدأ، ومشيتها الراقصة، لكأنها كانت تقلّب أوراق ديوانك في كل حركةٍ والتفاتة.

وأنا كلما رأيتها، رغم جمالها الأخّاذ، تذكرت السلام المذبوح، وتهدّجَ صوتي المبحوح من كثرة ما أتحدث عن الخير ولا يسمعون، وعن الحب فيكرهون، وعن الوحدة والتراحم والتآخي فيحاربون.

وأنا، يا صاحب الشعر، ألتقيها، كأننا على موعدٍ، هناك في معتكفي، بعيداً عن فحيح الشوارع السريعة، وزحام المسافات، وضجيج الإسمنت رغم صمته البارد. ونحن، أنا والشجر والطير، نتذكرك في أحاديثنا الخاصة الممطرة، كلما ناحت وباحت بمكنونها طليقة في أعالي الشجر، أو صفقت بجناحيها لكي تحرك وتلوّن الفضاء الجامد، إن كان في هذا ما يسرك، أما نحن اليوم، وإن كانت أحوالنا في بعض ديارنا جيدة كمعيشة، لكنها لا تسرّ: من الشامِ لبغدانِ، بل عبر الجهات الأربع، حتى الجهة الخامسة.

والجهة الخامسة هذه جهة أو جبهة ابتكروها لتدمير بقية الجهات، تتشكل من قوى خفية وظاهرة، تحمل خطابات ولغات متعددة، وهي تكتلات مختلفة ومتفرقة يجمعها لواء تدمير الأمة ومكتسباتها، تمزيقها، وتشتيتها، وتحويلها إلى دويلات قزمة، منثورة كالهباء، لا تكاد تُرى أو تلمح في الخريطة أو الجهات.

الله كم اشتقتُ لأوطاني يا أبا فراس، وأنت خير العارفين المجربين للحنين، فهي ما عادت تلك الأوطان التي تغنّينا وحلمنا بها، ولم أعد أميز: هل هي التي لا تشبهنا، أم نحن الذين لم نعد نشبهها، لم نعد نفرق، لا ملامحَ، ولا نضارةَ نعيم، بل لا أمانَ ولا مكان، لا اليمن يمننا، ولا الشام شامنا، قتلٌ وشلالاتُ دماء، لا تعرف من مع من، ولا من ضد من، حتى هؤلاء الذين يَقتلون ويُقتلون، لا يعرفون ما هم فيه من خديعة وسرابٍ، وهم لا يأبهون ولا يسألون!!

نمْ هانئاً إذاً، فقد تشابه اليوم ما فوق الأرض وما تحتها، مَن فوقها ومن تحتها!!

أصبح الموت في الحياة، وأصبح الموت رسالة أهل الحياة، وأصبحت بعض الدول تتبع سياسة توزيع الموت بعد فشل سياسات توزيع النفط مقابل الغذاء!! واعذرني يا سيدي، فقد أطلتُ عليك، وقد لا تفهم من هذا شيئاً، وليس الذنب ذنبك، فنحن نصطلي به ولا نفهم، ولكن، وكي لا أودعك بهذا الشكل الدرامي، سأودعك بابتسامةٍ بعد أنْ كبدتك عناء هذا البوح المضني، وسأترك لك هذه الأبيات، التي أكتبها بهذه الطريقة أحياناً لتساعدني على البوح بمرارتي، وبعث ابتسامةٍ على وجهي، ووجوه أهلي في نفس الوقت:

سألَ الطيرُ حمامةْ:

موعداً

في ساحةِ الرقصِ

وأهداها غمامةْ.

هو في التيهِ مثالٌ

وعلى التيه علامةْ.

ضحكتْ في خفقةٍ وابتعدتْ..

وصداها في الفضَا:

يوم القيامةْ!!

 

- الرياض
mjharbi@hotmail.com