Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد

موازنة نقدية بين نشرتين لديوان النابغة الذبياني(2-2)

أما إبراهيم فقد اعتمد منهجيةً في جمع الديوان أوضحها في مقدمته، وسار عليهامبتدئًا بما أورده الأعلم من رواية الأصمعي، ثم ما أورده رواية عن غيره مما لم يرو الأصمعي، ثم رواية ابن السكيت مع استبعاد ما سبق عند الأعلم، واختتم بقسم رابع سماه الشعر المنحول، وهو ما ذكر متفرقًا في كتب الأدب منسوبًا للنابغة، ولم يرد في الديوان. وأثبت في الهامش أسفل الصفحة، الفروق البسيطة في الكلمة أو الكلمتين بين النسخ المعتمدة وفي نهاية الديوان أورد ملحقاً خاصًا عنونه بـ»تحقيق رواية الديوان» أثبت فيه ترتيب القصيدة في الأصول المعتمدة، والفوارق بين مختلف الروايات في أبيات القصيدة أو ترتيبها، وما شابه.

وفي سردهم للدِّيوان أورد إبراهيم فاعور القصائد حسب تسلسلها في مصادره، ورتبها هجائيًا معطيًا لكل قصيدة عنوانًا خاصًا، ضمن مستطيل مزخرف، ليس سوى الكلمات الأولى من هذه القصيدة، وربما في حالات قليلة اختارعبارة أخرى منها.

وإذا كان الكتاب المحقق في عرف أهل الفن، هو ذلك الذيصحَّ عنوانه،واسم مؤلفه،ونسبةالكتاب إليه،وكان متنه أقرب مايكون إلى الصورةالتي يغلب على الظن أن مؤلفه تركه عليها( )، فإن الديوان المحقق أمامنا هو –فعليًا- إعادة تحقيق لعدة كتب، أو مستخرجات منها، وقد كُفي المحققون كثيرًا من العمل في تحقيق نسبة هذه الكتب ومؤلفيها،وقد سبق أنطُبعت وحُققت وأصبحت شائعة متداولة، ولئن كان بإمكاننا أن نحكم أو نقوِّم العمل الذي قام به أبو الفضل إبراهيم، فإنه يتعذر علينا تتبع عمل فاعور أو الحكم عليه؛لأننا نجهل الأصول التي اعتمد عليها والنهجَ الذي سلكه رغم أن ال دِّيوان في نهايته هو نفسه في حدود (75) قطعة وقصيدة لدى كل منهما.

أرفق إبراهيم صورًا من بعض النُّسخ التي عمل عليها (نسخة الأعلم)، ونسخة (ابن السكيت) وهما مخطوطتان، ولم يورد صورًا من النُّسخ الأخرى، وقدممعلومات تفصيلية عنها،كتاريخ النسخ ومكان أصل النُّسخة، ونوعية الخط، وعدد الأوراق، واسم النَّاسخ، وإن كانت هذه البيانات ليست عامة على جميع النسخ، وإنما قدَّمها وفق ما توفر له، أو بصفة عشوائية.

رجع إبراهيم إلى النَّسخ التي حددها في مقدمته، كما تفيد بذلك المقابلات بينها، وعضد بكتب اللغة والأدب، ورجع لديوانين مطبوعين للنابغة: «تحقيق شكري فيصل» و»المطبوع ضمن شرح البطليوسي للدواوين الخمسة».

ولم أقف على أثر لمقابلات بين نسخ المخطوطات، ولا الدواوين التي اعتمد عليها فاعور، لا في الحواشي، ولا في قائمة المصادر التي لم تثبت في نهاية الكتاب.

رابعا-الحواشي:

في تحقيق النصوص «لا يُسمح للمحقق بأي إضافة للنِّص، إلا بضوابط محددة شديدة الحرج، في مقابل حرية تامة فيما تحت الخط، والمسمى بالحاشية، وهي المنطقة المخصصة له؛لإيراد ما يراه من تعليق أو تصحيح»،ونجد الحواشي عند فاعـور قد أخذت حيزًا هامًا من الصفحة، وقد خصصها أساسًا لشرح المفردات وغريب اللغة، وأحيانًا –دون ضابط- يورد مناسبة القصيدة مع مصدره

وحينًا دون مرجع، وكذلك لا ذكر لأي مصدر من معاجم اللغة أو شروح ديوان النابغة التي يفترض أنه رجع إليها.

تنبئُ حواشي فاعور – في بعض الحالات- عن خدمة للنِّص، وفحص جيد لشعر النابغة؛ إذ رجع غير مرة لمعجم البلدان، وهو ليس مظنة لجمع الدِّيوان، بقدر ما يفيد البحث والتقصي،ونجده يوردنقدًا أدبيًّا في الطعن على بعض أبيات من معلقة النابغة،ذكره بعض قدماء المؤلفين كالجاحظ وابن سلّام، وتبناه طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي (صـ 337)؛ إذ يَستبعِد أن تكون الأبيات الستة المستثناة منالنفيالوارد في البيت:

وَلا أَرَى فَاعِلاً فِي النَّـاسِ يُشْبِهُهُ

وَلا أُحَاشِي مِـنَ الأَقْوَامِ مِنْ أَحَدِ

وأولها:

إِلا سُلَيْمَانَ إِذْ قَـالَ الإِلَهُ لَهُ

قُمْ فِي البَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الفَنَدِ

من شعر النابغة الذبياني.

غير أن هذا لم يكن استقصائيًا ولا شاملاً، وإنما يأتي كيفما اتفق، دون ضابط محدد.

أما إبراهيم فقد كُفي الشرحَ الذي جاء في متن الأصل المعتمد عليه، لذلك اقتصرت حواشيه على مقابلات النُّسخ القليلة، وإصلاح بعض التَّحريف أو التَّصحيف.

غابت عند الاثنين أي عناية بتحقيق المواضع وربطها بأسمائها الحديثة، والتعريف بالأعلام وتراجمهم.

خامسا-الإخراج الطباعي:

الإعداد للطباعة مرحلة هامة من نواحي النشر؛ إذ إن لهذا الإعداد أثره البالغ في ضبط العمل وإتقانه.

فالصورة النِّهائية المعدة للنشر يجب أن تكون دقيقة مراجعة تمام المراجعة، مراعى فيها الوضوح والتنسيق الكامل، وذلك من خلال:

1- التدقيق والتصحيح:

يقع على المحقق أعباء المراجعة الكاملة للعمل؛لتلافي أخطاء الطباعة، والتدقيق اللغوي والإملائي، التي تنسف كل الجهود التي قيم بها إذا لم يتم الاهتمام بها،ويظهر التصفح لكِلا الكتابين أنهما قد خضعا لدرجة جيدة من العناية والتدقيق، تظهر في التَّشكيل المتقن للكلمات الغريبة وللأحرف موضع الإيهام خاصة، رغم بعض الأخطاء المطبعية التي لا يسلم منها أي عمل بشري عادة.

غير أنه من اللافت أن خطأ إملائيًا تكرر في تحقيق فاعور تمثل في عدم العناية بالهُمز، وخصوصا همزة الوصل، والتي كتبت في كثير من الأحيان بصورة القطع: (إسم، إبنة، إحترام، الإسترسال أنفض، الإثنين، إرتاع، أنظر... وغيرها كثير)، وهي كلها همزات وصل، تكتب بألف دون همزة، كما أنه تم رصد خطأ شائع آخر في الخلط بين الضاد والظاء، لكنه لم يتكرر،وإنما كان في كلمتين في المقدمة: «ولم يحض بما حضي به» ويقصد: ولم يحظ بما حظي به( ). ولا تجد شيئًا من ذلك عند إبراهيم، الذي لا تخطئ العين الإتقانَ والتدقيقَ الإملائي الممتاز لكتابه.

2- علامات التَّرقيم:

تكتسي العناية بعلامات التَّرقيم أهمية خاصة في تيسير فهم النَّصوص وتعيين معانيها، وهي جزء هام من تحقيق النَّص، ومؤشر جيد على التحكم في مفاصله والإمساك بناصيته، ونلاحظ أنكلا منهما قد أحسن مواضع علامات الترقيم في جوهر العمل، أما من الناحية الشكلية فإن إبراهيم قد التزم نظامًا قد لا يكون الأنسب لما يستلزم من جهد إضافي لا ضرورة له، وهو وضع مسافة قبل وبعد العلامة، والمتعارف عليه هو إلصاق العلامة بالكلمة السابقة دون مسافة، وجعل المسافة بعدها.

سادسا-الفهارس:

«تعد الفهارس من مكملات العمل التحقيقي،وليست من صلبه، ولكنها تكتسي أهميتها الخاصة إذ تجلو ما في باطن هذا العمل من خفيات يصعب الوصول إليها، كما أنها معيارٌ توزن به صحة نصوصها، بمقابلة ما فيها من نظائر قد تكشف عن خطأ المحقق أو سهوه، وتتعدد مواضيع الفهارس لتصل إلى أربعة عشر موضوعًا في بعض الأحيان «.

اقتصر فاعور على أدنى درجة من الفهرسة، والتي لا يخلو منها كتاب، وهي فهرس المحتويات، وغابت باقي العناوين حتى أنه لم يورد قائمة بالمصادر والمراجع.

وعند إبراهيم نجد عناية خاصة واهتمامًا بالفهرسة شملت العناوين التالية: فهرس قصائد الديوان- فهرس الكلمات الغريبة- فهرس الأعلام- فهرس الأمم والقبائل- فهرس الأماكن، مع تثبت لمراجع التحقيق.

وبعد تلك الوقفات والتَّأملات في هذين التحقيقين لديوان النَّابغة يمكن القول بكل وضوح أن التحقيق الموسوم «تحقيق وشرح علي فاعور» لا يتوفر على المقومات والعناصر التي تسمح بالقول بأن جهدًا تحقيقيًا متكاملاً وراء هذا العمل، ولا نجزم بأنه مجرد تجميع تجاري لهذا الديوان؛ وإن كانت عددًا من الأدلة تؤشر لذلك، إذ كيف يكون هذا العمل بما يحويه من معلومات قيمة وحصر للديوان أغفل ذكر أدواته ومنهجه، وأحجم عن إشراك قرائه أتعابَه ومعاناته مع هذه المخطوطة أو تلك؟

أما «تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم» فقد بدا من أوائل سطوره أننا أمام عمل منهجي راسخ، وضع خطوطه ومحاوره وسار عليها حتى اكتمال العمل في صورته، متقيدًا بأصول التحقيق وضوابطه، كما يُوحي بذلك نصه المتقن الأنيق، وهوامشه وتعليقاته، وفهارسه التفصيلية.

مريم الشنقيطي - الرياض