Saturday 20/09/2014 Issue 446 السبت 25 ,ذو القعدة 1435 العدد
20/09/2014

هل المثقفون ورثة الأنبياء؟

-1-

العصمة من المصطلحات المعقدة ذات النوافذ المتعددة الرؤى ؛ولعل أمر ذلك التعقيد يعود إلى ما تحمله من غطاء يُحسب ضمن «المقدس»؛والقدسية هي «خاصية ترفع عن كل قول وفعل الخطأ والعيب والنقصان سواء في حالة الكائنية أو المحتمل أو الوهم «وهي بذلك أقصد القدسية الحاصلة من العصمة»توثيق مطلق بسلامة يقين وصوابية معتقد كل قول وفعل «، وكأننا هنا نقترب من مبدأ «وما ينطق عن الهوى». ولذلك من يملكها يملك «التصرف في العقل الجمعي» وتحريكه أنى شاء، ولذلك تتحول «فكرة استحقاق العصمة» مصدر تنازع بين الديني والثقافي عبر العصور.

تتحرك أبعاد «العصمة» عبر العصور وتتطور العقل الجمعي وتغيير مصادر الثقة وصناعة الوعي، وعبر ذلك التطور أخذت العصمة دلالات عدة لكنها غالبا ما تستقر في قالب دلالتها الرئيسي. ومن الدلالات التي تتحرك في ظلها العصمة «الريادة» و»الإصلاح» و»التنوير» و «البطولة»، وبذلك كل رائد هو حامل لعصمة بكل امتيازاتها من امتلاك صناعة الحقيقة واليقين و معايير التقويم والتقييم، مثلما كل مُصلِح و تنويري و بطل هم حاملون لخاصة العصمة. وتلك الدلالات يمكن تمثيلها من خلال الديني أو الثقافي، وأحقية ذلك التمثيل وأهمية الخاصية التي يحملها صاحب تلك الأحقية هو مصدر التنازع بين الديني والثقافي.

إن الصراع بين الديني والثقافي هو صراع يكاد يكون أزليا، ولعل ما يجعل ذلك الصراع حاضرا مدى الامتداد هو التنازع على «أحقية مُقِّر الحقيقة ومالكها». فمن يقنع العقل الجمعي بقدرته على امتلاك الحقيقة وإقرارها هو الذي يكسب «صفة القدسية» عند ذلك العقل. لأن امتلاك «الحقيقة» هو امتياز مانح «لخاصة العصمة» و والتأليه الفكري. هل هذا يعني أن هناك علاقة بين «ملكية الحقيقة و الحصول على خاصة العصمة».

إن مصدر الصواب هو المتحكم دوما في صناعة معايير التقويم والتقييم، ومصدر اليقين هو المتحكم دوما في الثبات والتجول، و الحقيقة هي دوما المتحكمة في مصدري الصواب واليقين.

وبذلك يُصبح «مالك الحقيقة» هو المتحكم في صناعة تصديق العقل الجمعي وقناعاته. وهي صناعة مهمة لِما لها من تأثير على اشتراطية الثبات بالأحادية والتصديق التي أشرت إليها في الموضوع السابق. وتحقق تلك الاشتراطية لمؤسِس أي نص هو إعلان صريح «لامتلاكه العصمة».

إن التعريف المبسط للعصمة المتنازع عليها بين الثقافي و الديني أن «فاعلها لا ينطق عن الهوى»، وهنا يدخل فاعل الديني والثقافي مسار الأحادية المقدسة. وهو مسار قد يبدو غريبا على الثقافي مقارنة بما يبدو عليه من عاديّة ومألوفية بالنسبة للديني، لأن الثقافي مبني على عالم افتراضي يرفع حدود الثابت والتبعية وقيدي السند والتاريخ، ولذلك سعيه إلى امتلاك الحقيقة الموٌفِرة لها «خاصة العصمة» أمر غريب إلا إذا قسنا هذا السعي برغبة الثقافي في «تكوين سلطة» لمحاربة الديني وإخراجه من دائرة مصادر التأثير.

وهناك نقطة أخرى أظنها يجب أن تُوضع في الحسبان فيما يتعلق بالتنازع على «خاصة العصمة» وهي نقطة «استقدام القيمة».

ففي المجتمعات العلمانية تقف الثقافة على قدم المساواة مع العلم في تقاسم السلطة التأثيرية على العقل الجمعي وقد لا نبالغ إذ قلنا إن التكوين الفكري والسلوكي للعقل الجمعي الغربي هو حاصل وظيفة الثقافة بما تملكه من سلطة، وسلطة الثقافة والعلم لم يحققا تأثيرهما إلا بعد تطهير العقل الجمعي الغربي من سلطة الديني والتعاليم الكنسية.

ورغم أن الديني في المجتمعات العلمانية لم يندثر وظل في ركن هادئ، وهو تركين سحب منه سلطته ولم يٌلغِ قيمته. «فالعلم والثقافة هما دين المجتمعات العلمانية»، وأصبح «المثقفون هنالك هم ورثة الأنبياء» لكن الأمر في المجتمعات الدينية يختلف، فالعلم لم يستطع أن «يُركّن الديني» لأن فاعله مستهلِك لا مُنتِج، ومازال الديني يحظى بثقة مطلقة من قِبل العقل الجمعي.

والأمر لا يختلف بالنسبة للثقافة فهي أيضا لم تستطع أن «تُركّن» الديني لتستولي على سلطته وامتيازاتها للأسباب التي ذكرتها في الموضوع السابق، ولأنها ما تزال تلف في دائرة المُستهلِك لا المُنتج،

وإحدى صور الاستهلاك للثقافة هي «استقدام القيمة» فالثقافة العربية والسعودية تحاول أن تملك قوة وسلطة لتتحكم في دائرة التأثير على العقل الجمعي، ليُصبح» الثقافي هو وريث الأنبياء» بدلا من «الديني»وهي تريد أن تنهج منهج «عصر الأنوار» عندما أزاح العلم والثقافة الديني من دائرة التأثير على العقل الجمعي واستحقت «وراثة الأنبياء»، وهذا سبب التنازع المستمر بين الثقافي والديني.

فالثقافي يظن أن لا وجود له بجوار الديني؛ لاختلاف غايتهما، فما تدعو له الثقافة هي الثورة وكسر قيود التبعية للديني ورفع ملكية الحقيقة عنه وإسقاط خاصة العصمة التي تمنحه «الأحادية المقدسة» والعلو فوق النهضوي، وأنها لن تحظى بخاصية العصمة التي تستطيع من خلالها تجنيد العقل الجمعي لتعاليمها لإنتاج سلطة فوقية تتحكم في دائرة التأثير الجمعي؛إلا في حالة «تركين الديني» ونزع منه العصمة الصانعة لقدسيته.

ويبادله «الديني» ذات الظن، فالديني يرى أن الثقافي لايمكن أن يقبل الخضوع لسلطته، كما لا يقبل الديني أن يفرض الثقافي غايته على العقل الجمعي لأن تحقق تلك الغاية هو تنازل الديني عن مكتسباته في امتلاك الحقيقة و قدسية والوصاية وخلصة العصمة، وكأقل ضرر قد يؤدي إلى تقاسم سلطة التأثير معه، وهذا أمر باطل «فتعدد الآلهة مفسدة».

ولذا يسعى الديني إلى «محاربة الثقافي» بطريقة تمنع المتلقي من تحقيق « ثقة» بالثقافي من خلال منظومة التخويف والتخوين التي يمارسها الديني على كل من يخالفه.

ولذلك يظل الصراع مستمرا بينهما على مبدأ التنازع القائم في أصله على اكتساب السلطة وامتيازاتها كملكية الحقيقة الحاصلة من خاصة العصمة، أو امتلاك المقرر السليم لصناعة المستقبل.

إن خاصة العصمة هي «حق مكتسب» بموجب نوع المُوفِر لها وخصائصه، وهنا نحن نتحدث عن «الفاعل والنص». وهما الجذر المُشرّع للزومية العصمة أو المّشرّع ببطلان تلك اللزومية.

وثبات ذلك الجذر لم يمنع من وجود «جدلية القيمة التراتبية للأولية والأولوية لطرفي ذلك الجذر.

فما مصدر العصمة في الديني والثقافي، أهو الفاعل أم النص؟. وهو سؤال تتعلق إجابته ببصمة الأصالة لطرف من الطرفين.

يستمد الديني عصمته الرئيسة من الفاعل و يحصّن ذلك الفاعل بالنص.

في حين أن الثقافي يستمد عصمته من النص النهضوي و يحصنه بالفاعل كمشترك لخبرة جمعية. مع مراعاة الفروق الدلالية لمفهوم النص عند كل من الديني والثقافي.

يميل الثقافي إلى فكرة «المساواة بالمشاركة»؛ أي أنهما معا الفاعل والمُنتَج يشتركان في تلك الصفة، وبذلك يُصبح التساوي بالمشاركة دليلا تفنيدا على مستويين: المستوى الأول تفنيدا للأحادية التي تسعى إلى حصر صفة العصمة في طرف من طرفي الحركة التأثيرية على المتلقي، والمستوى الثاني أن المشاركة تُخفف من مركزية المطلق المحيطة بالفاعل و نصه، وهو تخفيف لايضر غالبا بقدسية الفاعل ونصه إنما يمنحه قدرة المجاورة على ثنائية التأويل.

وهذه المساواة بالمشاركة قد تضرّ الثقافي لأنها تعيق إعادة التدوير المحلي للنص الإصلاحي المستورد، كما ترفع قيمة أولية الفاعلية للناقل بالأستيراد.

لكن الديني يرى أن «خاصة العصمة» وفق قيمة تراتبية الأولوية والأولية هي ملك»الفاعل»لأنه مصدر النص وبالتالي وجب الاهتمام بقيمة التراتبية.

وثمة ما يٌحسب في باب المنطق لمضمون هذا الرأي، فالطبيعة الإنسانية تميل إلى الإيمان بالمرئي قبل المسموع فنحن نؤمن بالأشخاص قبل أفكارهم وذلكم أمر طبعي لأن الخبرة الأولى المنتِجة للمعرفة غالبا ما تبدأ بالحسي قبل الغيبي، ولذلك «فالتشخيص معرفة مستقلة»؛كما أن أحكامنا الأولية غالبا ما نصدرها من خلال ما نستمده من انطباع يتعلق بشكل الأشخاص، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه «السيكولوجية»

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} (4) سورة المنافقون

فالفكرة لا تُعد نزيهة إلا إذا كان صاحبها نزيها، والفاعل المثالي هو صاحب فكرة مثالية، والفاعل المخلص والأمين هو صاحب أفكار مخلصة وأمينة دوما التصديق ما يحدث من المرئي إلى المسموع.

وهكذا تمتد مسطرة القياس، لتٌصبح فيما بعد مسطرة القياس تلك حيلة حاوي لثوب معيار يستطيع أن يرتديه كل ممثِل «لخاصة العصمة».

ووقوع الاحتمال بالاحتيال عبر مسطرة القياس تلك ترفع عن الفاعل «الثبات المطلق» «لخاصة العصمة» لعدم قدرته على إيجاد نظام حصانة يمنع من التزوير عبر مسطرة القياس.

وإن كانت نقطة الضعف في نظام التحصين ليس لها تأثيرا في ظل وجود منظومة تبريرية متماسكة تٌنقذ الفاعل حين الوقوع فيما قد تنتجه مسطرة القياس من فساد واحتيال.

ويقف الثقافي معارضا لعصمة الفاعل لأن تلك العصمة تقتح باب الاحتيال على «النص» من خلال «الحق المكتسب المطلق للفاعل للتصرف في تأويل النص دون ضوابط معروفة و منطقية ومراعية لحركة العامل النهضوي. وأن «حصرية العصمة للفاعل دون النص» تقود الفاعل إلى التطرف؛ وكم من متطرف أوهم الناس بعصمته فقاد مجتمعه نحو جحيم الدنيا ودفع نفسه إلى جحيم الآخر.

إنها ذات العصمة التي أوهمت فرعون من قبل يأنه «الرب الأعلى» و «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم الإ سبيل الرشاد».

كما أن ملكية «الفاعل» «لخاصة العصمة» أو حصر تلك الخاصية للفاعل دون النص، فيه ما يخالف المنطق ؛إذ أن «خاصة العصمة» هي مُكسِب للحيوية أو «ديمومة الانتقال و التأثير»، وتلك الديمومة تتعارض مع الطبيعة الإنسانية التي تتصف بالوقتية والتدرج الهابط والرؤية قصيرة المدى مهما توسعت والعجز عن التنبؤ النهضوي، وتلك الخصائص المُلِزمة للطبيعة الإنسانية باختلاف فواعلها لا تؤهل الفاعل لصفة العصمة الخالصة «فليس دوما الديني وريثا للأنبياء» فهل من الممكن أن يُصبح «الثقافي» وريثا للأنبياء»؟ والإجابة مازالت قيد الإنشاء.

- جدة