Saturday 20/12/2014 Issue 456 السبت 28 ,صفر 1436 العدد

في مفهوم دولة العموم

(1)

لماذا انقسم السودان إلى دولتين؟ لماذا سقط العراق في اللبننة وفي مهلكة الطائفيّة؟ لماذا سقطت ليبيا في جحيم القبائليّة والتطرّف الدموي؟ كيف دخلت سوريا في حرب أهليّة مدمّرة ومآلها إلى سقوط؟ هل تقدر تونس أن تخرج من عتمتها في امتحان الحركات الدينيّة - السياسيّة أن تُلقي السلم وأن تحافظ على مكتسباتها في نتائج التجربتين الانتخابيّتين واللتين أفرزتا نتائج معاكسة، كيف لتونس العلمانيّة تاريخيّاً أن تصبح اليوم من الدول التي تصدّر مقاتلين إلى ساحات القتال لأجل فكرة الدولة الدينيّة؟ ولماذا كلّما سقط نظام سياسي عربي سقطت معه الدولة: (مؤسّساتها، سلمها الأهلي، مكوّناتها المتعايشة؟).

ولعلّ الرابط في هذه الأسئلة موجود في مفهوم الدولة العربيّة على أرض الواقع، المؤسّسة على عجلٍ في فهم مبتورة لمنظومة العلاقة بين القوميّة والعموميّة وقيمة الفرد؛ فكان أن تأسست واقعاً بصورة سيامية بين السلطة والنظام والدولة، فإذا سقط النظام لم نجد الدولة، لأنّ الدول العربيّة لم تتكوّن على مفهوم مؤسّساتي - أهلي، ولا على مدلول دولة العموم / دولة الناس، بل تأسّست على مفهوم الغلبة الفئوية، فإنْ هُزمت هذه الفئة لم تسقط بمفردها، بل أخذت معها هذه الدولة التي أنشأتها على مقاسها وفئويّتها، وقامت باختزالها في نفوذها ووجودها.

(2)

بُنيت الدول العربيّة على مضمونٍ مجبولٍ ومتداخل في ثقافاتها وتواريخها المتراكمة يستند إلى الغلبة والتصفية - أيّا كانت أنظمتها السياسيّة - فجميع هذه الأنظمة على اختلافاتها مُؤسّسة على مضمون الغلبة والتصفية، والمضمون والغاية عندنا سيّدا الأداة والشكل: الحكم للفئة الغالبة؛ فليس القول المنسوب إلى عمر بن العاص في توصيف شعب مصر: (الحكم فيهم لمن غلب) بتوصيف مقتصر على المصريين بقدر ما هو طبيعة دول ما قبل عصر العلم والحداثة العلمانية.

أمّا الفئة المغلوبة فإنّ مصيرها بين التصفية قتلاً أو تهجيراً أو الرضوخ بتبعيّة ثانويّة، فثمّة تبعيّة أوّلية وهم أتباع الفئة الغالبة يتبعون ولا يحكمون، لكنّهم يحصلون على درجة من الامتيازات في هذا الكيان على حساب المغلوبين، وتبعيّة ثانويّة بقايا المغلوبين - السلطة السابقة وأعوانها - الذين لم يتمكّنوا من الهرب ولم يقع عليهم التهجير، وثمّة تبعيّة عريضة وهم الناس / العموم (الذين لم يتصارعوا على السلطة) وهم جوهر الشعب ووجوده، وهم عادة ما يمثّلون روح الوطن، وحينما يذكر فإنك تشير إليهم وإن ذكرت اسم البلد فقط.

مضمون الغلبة إرث إنساني ليس محصوراً في تاريخ دون آخر، فما من شعب إلاّ تعرّض في تواريخه إلى هذا المضمون الذي كان أساس الدولة القديمة؛ وبالنسبة لتاريخ الدول العربيّة المتراكم فهو إرثٌ موروثٌ عن مضمون الدولة العثمانيّة والعبّاسيّة والأموية: (الدولة لمن يحكمها: دولة الحاكمين لا دولة المحكومين) والتأثير الأكبر منقولٌ عن ومن الفترة العثمانيّة، فأنت لا يمكن أن تتدّعي تأثّر العربي اليوم بالمضامين الأمويّة أو العبّاسيّة، وذلك لأنّه اليوم عاقب وسليل الفترة العثمانيّة، هكذا تنتمي إلى الأب وتتأثّر به قبل الانتماء إلى الجدّ الذي لم تره، وتتأثّر به.. وكما قلنا فإن الغلبةَ مضمونٌ لم يكن حصراً على العرب في تأسيس كياناتهم السياسيّة، إنّما هو مضمون تاريخيّ عملت به القوى الغالبة في شعوب العالم الأخرى، فكان هذا المضمون (الدولة - الغلبة) هو القاعدة في جميع الكيانات السياسيّة لشعوب العالم لأنّ الدولة بمعنى الكيان السياسي لا يقوم إلاّ على الدولة بمعنى الغلبة والقوّة فأصلٌ في الدولة الغلبة، حتّى الدول الحديثة في عصر العلم لم تفلت جميعها من مضمونها القديم، لكنّها بدأت شيئاً فشيئاً تتأثّر بمفهوم دولة العموم (غلبة العموم) تحت تأثيرات تنامي وتزايد وعي الأفراد المؤهّلين في معرفة حقوق الفرد وقيمته في الجماعة، وبدأ اتّجاه حداثيّ - عصري مادي علماني، يتبلور بالابتعاد عن احتكارية رجال الدين للدين وللحياة وكذلك احتكار السياسيين للسياسة والدنيا، وهو اتجاه مفاده معاكس للمضمون الاستزلامي القديم (ما لقيصر لقصير)، وبدأ وعي: أنّ السلطة ليست لقيصر دون شعبه وأن الشعب مصدر سلطات قيصر، وصولاً إلى الوعي التام بالضرورة الفرديّة المتطوّرة بتطوّر أفراد المجتمعات، حتّى أصبحت دولة العموم واقعاً تزاحم إلى جوار مضمون دولة الخصوص، وأصبح الشعب فيها هو القيصر.

(3)

لم تعرف أيّ دولة عربيّة منذ سايكس - بيكو شكل الدولة الحديثة وفقاً للمفهوم الذي يمنح ملكيّة الدولة أو شرعيّة الغلبة للناس، وليس للقوة الغالبة كفئة من الناس.. ولا تشكّل أيّاً منها على مفهوم الدستور، الشعب / العموم مصدر السلطات، الفصل بين السلطات الثلاث؛ والمسألة: أنّ حركات المعارضة نفسها لم تفلت من تقليد الأنظمة التي تعارضها.

في هذا المناخ السياسي استثمر اليمين الديني - السياسي غياب الخطاب الوطني العمومي، وغياب قيمة الفرد العربي لأجل تقديم خطابه في بناء دولة: هي استحضار للدولة الغالبة الدينيّة، وهو بناءٌ قدرُهُ أن لا يكتمل - لأنّ من أسس الدولة المعاصرة اليوم هو الاعتراف الدولي بها، إن كانت (دولة غلبة - الصين مثلاً، أو دولة عموم - المملكة المتحدة)، كما أنّ وعي الأفراد لم يعد يتحمّل تكرار دول عثمانيّة أو عبّاسيّة أخرى: (على الرغم من محاولات لقيام دولة عبّاسيّة دمويّة في أفغانستان، العراق، السودان، ليبيا.. إلاّ أنّ العلاقات الدوليّة والتي حسمت مسألة الاعتراف كأصل حاسم في إثبات وجود الدولة وشرعيّة تعاملاتها الاقتصاديّة والإنسانيّة، ممّا يجعل هكذا محاولات تبقى في مناطق النزاع، ولا يمكن أن تقدّم نموذجاً في السياسة المعاصرة، ولا أن يكتب لها الاستمراريّة).

(4)

الدولة سلطةٌ في المفهوم التاريخي الواقعي التراكمي عند العرب، ومدلولها في الواقع لا يخرج عن هذا المدلول التاريخي التراكمي، على دلالة (الإدالة - الغلبة).

الدولة لا تقوم إلاّ على الغلبة: وسؤال العقد الاجتماعي يبدو دون قيمة إذا لم يتساءل عن (الغلبة) لمن الغلبة؟ هل الغلبة فئويّة، أم الغلبة للوطن - غلبة العموم؟

هكذا يمكن تقسيم دول العالم اليوم إلى قسمين من حيث مضمون الغلبة - والتصفية أو اللا - غلبة - واللا -تصفية: فدول مضمونها قائم على أنّ الغلبة في الناس / الشعب / المواطنين / العموم، وهم مصدر الغلبة ومصدر السلطات، ومصدر تنصيب السلطات الثلاث.. وهناك دول مضمونها قائم على أنّ الغلبة للسلطات وليس للعموم، وأنّ السلطة السياسيّة هي مصدر السلطات.. وكلا المضمونين قادران على الإنتاج والسيادة، فكلا السيادة والحضارة منتجات ماديّة غير مرهونة بمضمون دون آخر.

(5)

لقد كان وما زال هذا المفهوم المضمون غائباً عن أساس بناء الدول العربيّة التي تأسّست انشقاقاً من الدولة العثمانية، حتّى الدولة الجزائريّة التي يفترض أن تكون مختلفة نسبيّاً عن الدول العربيّة الأخرى نظراً لأنّ استقلالها جاء بعد احتلال فرنسي دام لمئة وثلاثين سنة، لم يأتِ استقلالها وتكوين دولتها امتداداً متأثّراً تأثّراً أصيلاً بما يمكن أن تقدّمه مئة وثلاثون سنة من الحكم الفرنسي، وما يحمله الفرنسيّون من وعي لمضمون دولة العموم، إنّما جاء مضمون الدولة الجزائريّة امتداداً لمضمون الدولة / الغلبة الفئويّة وإن كان شكلها يوحي بتآخي مع الشكل الأوروبي، لكنّ العبرة بالمضمون وليس بالشكل، وهو الموروث العربيّ، ذلك أنّ مفاهيم كالعروبة والإسلام لعبت دوراً في الاستقلال أكثر من مفاهيم الهويّة الجزائريّة والمحضّ جزائريّة، ولعلّ تغييب هذه المفاهيم المتعلّقة بالمواطنة -وهنا جوهر المقال - أخّر في ظهور مفهوم دولة العموم، وحقّ أيّ مواطن عربيّ أن تكون هويّته مربوطة بوطنه لا بالإقليم (الخليجي، المغربي)، ولا بانتماء عرقيّ لم يحسم بعد (العربي) أو انتماء دينيّ واسع ليس له مدلول على الواقع، لأنّ الدين عقيدة فردية وليست عقيدة سياسيّة لتأسيس دولة؛ هكذا يكون حقّ المواطن السعودي أن تكون هويّته سعوديّة أولاً وقبل أيّ شيء آخر، أن تكون هويّته تعبيراً لمعنى وجوده الوطني، أنّه ينتمي إلى وطن ينتمي إليه، وحقّ المغربي أن يكون مغربيّاً، وحق المصريّ أن يكون مصريّاً دون اتهامه بالتفريط بالعروبة أو بالإسلام، لأنّ مجرد وجود تلك الاتهامات فإنّك أخرجت الأقليات الدينيّة والعرقية خارج المضمون الوطني: فكيف تسأل الأقليات العرقيّة أو الدينيّة انتماء إلى مكان لا يعترف بهم إذا كان هذا الكيان قائماً على العرقيّة والمذهبيّة (وهذا ما حدث في انقسام جنوب السودان)؟! لذلك فإن تلك المصطلحات لا تنتج قيمتها الإقليميّة والتحالفيّة إذا لم يتأسس مصطلح قبلها جميعةً، وهو الانتماء للوطن أولاً؛ والقيمة في مفهوم المواطنة: أنّك بمجرد اعتماده أزحت عن كاهل الكيان مفهوم الأكثريات والأقليّات، لأنّ مفهوم الكثرة والقلّة إذا كان مربوطاً بالعرق والمعتقد فإنّه قادر على تفتيت الوطن وقلبه إلى جحيم في أيّ وقت، فإذا المفهوم استطاع أن يتجاوز المعتقد والعرق كروابط للأفراد والكيان فإنّ الأكثريات والأقليات الاجتماعيّة يتلاشى تأثيرها على الوحدة الوطنيّة، ويعودلعرق والدين إلى مفهومهما الفردي الخاص بالفرد وليس بالجماعة.. إنّ غياب هذا الحقّ الذي لم تكن الأنظمة العربيّة حريصة عليه تحت ادعاءات قوميّة أو إسلامية أثّر على تأخير ظهور دولة العموم، بل فتّت إمكان تجمّع قوى مدنيّة انتمائيّة للوطن تنهض بالوطن على أساس (الوطن للجميع) وبقي هذه الشعار في الدول العربيّة التي رفعته مجرّد شعار ليس له مدلول على الواقع.

ياسر حجازي - جدة