Saturday 20/12/2014 Issue 456 السبت 28 ,صفر 1436 العدد
20/12/2014

(الكتابة) و(الكآبة)

إنّ أهم سؤال وأخطر استفهام يمكن أن يُواجه الكاتب هو حين يُسأل عن الأسباب التي تقوده إلى الكتابة، والعلل التي تجعله يغازل الحروف في كل وقت وحين لينثرها على صفحة بيضاء (ورقية) أو (إلكترونية)، ثم يُودعها ليلتقي بها مرة أخرى في عمود صحيفة أو زاوية مجلة، وربما ودّعها دون لقاء!

يتظاهر هذا السؤال بالوضوح والسهولة، أو هكذا يبدو للكثيرين، غير أن الإجابة عنه تحتاج إلى كثير من التأمل، لأنها تحدد نهج الكاتب وتفضح روحه، وتكشف عن أنواع المتلقين الذين يقصدهم بالكتابة، وتفصح عن كثير من ملامح تعاملاته الحياتية.

هل يتصور الكاتب أن حروفه تنبع من شعوره بإنسانيته؟ أم أنه يرى أن المسؤولية الاجتماعية هي من تحرضه على إبداعها؟ بعض الكتاب يدّعي أن كتاباته تخفيف عما يحس به من آلام ومعاناة تصيب روحه، وبعضهم يزعم أن عباراته تفتح أبواب التفاؤل والأمل للأمة التي ينتمي إليها، وبعضهم الآخر يؤكد أنها محاولات جادة للهروب من زنزانة الجسد، حيث التحليق في فضاءات الكلمة وجماليات الصورة وعبقريات الخيال والاستعارة.

هل يمكن أن تكون الرغبة في الخلود والبقاء سبباً للكتابة! وهل يمكن أن يتعامل الكاتب مع ألفاظه ومعانيه وكأنها سيوف تخوض غمار المعركة! أو رماحاً تتطاير في أجوائها! أو سهاماً يلقي عليها القوسُ نظرة الوداع وهي تنطلق بكل شوق إلى مقصدها! ولكن.. هل يتصور المتلقي بعد كل هذا أن المؤلف يمكن أن ينسى نفسه في سبيل تحقيق هذه الأهداف المثالية؟

هذا ما يجيب عنه الروائي والصحفي البريطاني (جورج أورويل) في كتابه المترجم مؤخراً «لماذا أكتب؟»، حيث يضع أربعة دوافع للكتابة، يأتي على رأسها «حب الذات الصرف»، وهنا يستوقف القارئ صراحة أورويل ورؤيته اللاذعة لنوعية من الكتّاب الذين يسعون إلى الشهرة والظهور، ولنوعية أخرى يُوظّفون الكتابة للتخلص من آثار حدث سيئ وقع لهم من خلال التخفف منه، عبر نقل تجربتهم في التعامل معه إلى القراء، ولنوعية ثالثة يداعبهم المؤلف بالتأكيد على أن كتاباتهم كانت محاولةً للانتقام من أشخاص عديدين نغصوا عليهم حياتهم منذ بداية وعيهم بالعالم، ونماذج أورويل تحركهم جميعاً الرغبة في أن يصفهم القراء بالذكاء ويتذكروهم بعد الموت!

يقول بعضهم: نكتب حيناً لأننا أنانيون نحب ذواتنا المتضخِّمة بشغف، ولا نخاف من إعلان هذا الحب على الملأ، ونكتب حيناً لنؤكد على جهلنا، ولنبحث عن قبس هداية ونار دافئة تعيد للذكرى حبَّ الأم اللا متناهي، ودِفء حُضنها وأمنه، مثلنا حين نكتب كطفل يقف على أصابع قَدَميه، ويشد قامته؛ لكي يقنع ابن الجيران بأنه أكبر وأفهم، وحيناً ثالثة لنحاول الهروبَ من ملاحقة الزمن ودولاب العُمر، فنخلع سراً ثياب الكبار، ونمسح من صورنا وقارهم المصطنع، وسمتهم المتكلف، ونَركض خلف فراشة الحقل، ونضحك بلا سببٍ ضحكات لم يكدر صفوها التفكير بالغد وهموم عالم الكبار الكئيب.

أما التنفيس عن الذات فهو سبب مهم للكتابة لا يمكن إغفاله، حيث يمكن أن تعين صاحبها على مواجهة مصاعب الحياة، فقد يعجز الإنسان عن إيجاد من يستمع إليه ويبثه شكواه، فلا يجد أمامه سوى القلم يكلمه والورقة يشكو إليها!

إن البحث عن أسباب الكتابة يطرح مسألة مهمة بشكل عام، ترتكز على الوعي بضرورة وجود النقد الحقيقي الذي يستهدف بيئة الكتابة بكل أركانها: المبدع والمتلقي والناقد، وهي قضية تمتاز بمعاصرتها وحضورها القوي في ثقافتنا العربية.

- الرياض Omar1401@gmail.com