Saturday 22/02/2014 Issue 429 السبت 22 ,ربيع الثاني 1435 العدد

أحجارٌ عارية وصفراء في مواجهة البحر

هل جئت إلى مرسيليا قبلاً؟

كلا.

إذاً تعال معي لأريك حكاياتها الجميلة.

لماذا؟

لأني سمعت أنك تحب الحكايات.

إيزيس فريسينيه

مرافقتي في الدعوة إلى مرسيليا عاصمة للثقافة الأوروبية.

(1)

مرسيليا ليست نزهة بل مدينة. علينا أن نعترف أنها كذلك، وأن خوفنا منها يجعلها في أحايين كثيرة مجرد نزهة. نزهة ناقصة بين بحرين وشواطئ كثيرة وموانئ. مالذي يجعل من المدينة مدينةً؟ هل الحلم بكونها مدينة؟ أو تشكلها على هذا النحو أو ذاك مدينةً قائمة لا تتزحزح؟ أعادتني مرسيليا إلى مدننا. تلك المدن التي لم نرها لكننا قرأناها في دواخلنا أولاً ثم في الحجر الذي يعلو ويعلو ثم يهدم ويهدم. لا أسعى لتسجيل القول يدمر. المدن التي تبدأ أحلاماً ثم تولدُ على أرض الواقع لا تدمر. غير أن الوقائع التي جاء بها التاريخ، القديم والمعاصر، تفيد بالعكس. المدن تُدمر وتباد عن بكرة أبيها. الأسكندرية، البندقية، دمشق، بغداد، كيوتو اليابانية وكذلك هيروشيما. لو لم يكن الأمر كذلك، ما كان إيتالو كالفينو رأى مدنا غير مرئية.

نعثر في دمشق على حلم معاوية كما نعثر في بغداد على أحلام أبو جعفر المنصور. لكنها أحلام غير مكتملة. أحلامهم اليوم تبدو كلعبة بزل ضاعت أعداد هائلة من مربعاتها. ضاع الجمال ولم يبق غير لطخات الدماء التي تبقع وجوهها. قبل سنوات كتب جاك فيني رواية عن نيويورك. نيويورك الضائعة. منهاتن التي لا نراها اليوم. لم يجرؤ أحد أن يكتب عن القدس. ربما وحدها هي هذه المدينة العصية على الاندثار. مدينة يحميها ربها.

بوسعنا تخيل رحلة كالفينو إلى نيويورك 1959 ليس فقط من خلال رسائله إلى أصدقائه التي كتبها على شكل Autopiographie في كتابه Ermite a Paris - 1964 بل في رواية التي تلتها بعد ثمانية أعوام. مدن غير مرئية Les villes invisible - 1972. في رحلته التي التي كانت بمنحة من مؤسسة فورد كتب كالفينو إلى أصدقائه رسائل عن نفسه في مدينة لا يمكن رؤيتها كاملة بسبب ضخامتها. بوسعنا تخيل ذلك، لكننا لا نقدر على مجاراته اليوم. باريس أيضاً، اليوم، لا يمكن رؤيتها كاملة. كيف نرى مدننا؟ مدن غير مرئية هي الصدى الحقيقي الوحيد في أدب كالفينو لرحلة نيويورك. المدن التي لم نرها حفظها هذا الرجل في صميم الأدب وأدخلها إلى الأبد وأغلق عليها دفتيه.

لم أعد أذكر اسم الكاتب الذي نشر رواية قبل سنوات عن نيويورك. تجول في منهاتن غير تلك التي نعرفها. مدينة خفيّة يسكنها أناس لا نعرفهم، على الأرجح لا مثيل لهم. ربيع جابر كتب عن بيروت التي تحت الأرض. دخل من باب السينما المهجورة في وسط البلد، السينما الشاهدة، حتى اليوم، على الاقتتال العنيف الذي شهدته تلك الطرقات. ومن هناك دخل في حفرة ولم يخرج. لكنه عاش بين أناس لا يأكلون سوى السمك. أقزام يتناسلون من الدهاليز المرتبطة ببعضها والتي توصل للبحر. دخل من وسط البلد وخرج قبالة الروشة. الصخرة الوحيدة التي ترمز للبنان. لا أعرف إن كانت المدن التي بنت على الرمل قادرة على تخيل قيعانها. المدن التي تتحرك يومياً، تتغير ملامحها كل طلعة شمس. أذكر رحلتي إلى الرياض 2004 . قبل عشر سنوات أخذني يوسف في سيارة رباعية الدفع إلى بيت قريب لا زلت حتى اليوم أضيِّع في متاهة ذاكرتي طريقه. لم أعد أعلم كيف أصل. ثم أخذني من يدي محمد رضا وذهب بي إلى فرح زواج شاب صغير. لم أعد، أيضاً، أفتكر شيئاً سوى وجوه الذين قاسموني نصف ذبيحة ممددة على تلٍ صغير من الأرز وأربعة أطباق صغيرة من السلطة البدائية المتواضعة. لم تكن سكاكين ولا ملاعق بل أيدٍ تتلاعبُ بحبات الأرز كما يتلاعب صاحب الدمى بدميتيه أمام مبنى السوربون. كنت أشاهده كلما مررت من هناك للقاء معلمتي التي كانت تحضني على شراء كتب معينة من مكتبة معينة لا نصلها إلا حين النزول ثلاث وعشرين درجة إلى تحت الأرض.

الرياض التي عرفتها قبل عشرة أعوام، لم تكن الرياض حتماً، كانت حلماً أو مدينة لا يمكن العثور عليها ولا على ناسها ولا حتى على سيارة يوسف رباعية الدفع التي ربما إستبدلها ولا ندري أين هي أراضيها اليوم. ربما غرقت في الرمال، أحياناً أقول لنفسي حين أعتقد أني فقدت الأمل برؤيتها ورؤية يوسف.

(2)

تمسكني إيزيس من يدي وتمشي بي في أزقة مرسيليا. لم نكن بعيدين عن البحر أبداً أو هكذا تخيلت. رائحته النفاذة كانت تصلني وأنا في أكثر الأزقة ضيقاً. ربما تخرج الرائحة من فتحات صغيرة في الأرض. ربما هي ذاتها الفتحات التي كتب عنها ربيع جابر في بيروت وقال إنها مسكونة وأن الهواء يدخلها من جهة البحر ويخرج من جهات عديدة. لكني فكرت أن المدن التي على البحر تعشقه. ولشدة عشقها له تتنفسه من كافة مساماتها.

مرة جديدة، تدوخني المدن البحرية كما تدوخني مدن الصحراء.

ربما للأمر علاقة بطفولتي، فقد عشت دوماً في مدن على البحر. ولدت في صور وعشت بين صيدا وبيروت. كنا أنا ونسيم نهرب من المدرسة ونقضي اليوم بطوله في القلعة البحرية وحين نقرر أن نسبح كنا ندخل عميقاً، لا محبة في البحر بل لكي نشاهد صورة صيدا أمامنا كما لو أنها لوحة لرسام رومنطيقي من عصر الأنوار.

لكن مرسيليا ليست صيدا وإيزيس ليست نسيم الذي سافر إلى روسيا وغرق في مدنها التي تتشابه في كل شيء وأصبح يرطن الروسية التي حين سمعته يحدثنا لأول مرة اعتقدت إنها تشبه أصوات محركات القطارات القديمة. لغة فيها من الصلابة والقوة ما يجعلني أفهم كيف يمكن أن تلد لغة كهذه شخصاً مثل ستالين.

أبتعد مع إيزيس عن البحر ثم نعود لنلتقي به. في مرسيليا البحر هو نقطة الخروج من المتاهة والدخول إليها. مشت بي كثيراً هذه الفتاة الثلاثينية التي عرفت أنها ليست من هنا، بل من تشيلي من إم وأب فرنسيين يعيشان هناك خلف المحيط. وإنها جاءت إلى المدينة لتصبح قبطاناً في البحر لكنها لم تمانع بالعمل هذا العام لكي تتابع دروسها من جهة وتتعرف على المدينة من خلال الاحتفالية. كنا أعميان نسير في طريق واحدة. أنا الذي لا يعرف شيئاً من المدينة وهي التي تمشي دون أن تدري إلى أين وكانت خارطة الأماكن التي علينا أن نزورها هي دليلنا الوحيد.

(3)

منذ أن تركت لبنان بعد الحرب، أصبحت أبحث عن أي شيء يقربني من فلسطين. أجد مشقة في ذلك. مع هذا أحاول أن أعثر على ما يجعلني أقترب منها أكثر. كنت قرأت كتباً عن مرسيليا في السابق. ثم وقبل أن أزورها بعدة سنوات مشيت في طرقاتها المرسومة على خارطة سياحية في المكتبة الوطنية في باريس. حينها لم أكن أهتم بثقافة المدينة قدر ما كان يهمني معرفة تقسيمها المدني انطلاقاً من الميناء أحياناً وأيضا من محطة سان شارل للقطارات التي تصل المدينة بالداخل الفرنسي. لكن الكتب لا تكذب كما الخرائط. المدن تتغير والكتب لا تتغير. لا أتخيل اليوم خريطة ثابتة لدبي مثلاً. هذا ضرب من المستحيل. لكني أعتقد أن على أهلها أن يكتبوها كي لا تضيع في زحمة الناطحات وضجيج الجغرافيا. أبحث عن منزل بيار لوكليرك، لم تكن إيزيس قادرة لتدلني دون جهد يذكر. مررنا بجوار منازل كثيرة لهذه العائلة لكننا لم نعثر على فيلا فلسطين.

مرسيليا على حافة البحر، مدينة مصابة بالصرع والدوار.

أدور فيها ويدور رأسي وتدور إيزيس كما لو أننا في الوعاء البلاستيكي الذي تنشف فيه أوراق الخس من خلال الدوران. كلما دخلنا في زقاق ندخل في متاهة من الأشياء، معارض مقاهي محال أحذية وملابس وبقاليات تبيش أشياء عادية وبعض المواد المهربة من الميناء. كل شيء هنا ممكن. شراء دجاجة دبحت صباحاً في تونس ووصلت مساء ممكن، تمور وصلت من المدينة المنورة ممكن، عباءات نسائية سوداء كالتي شاهدتها يوماً في أحد أسواق جدة ممكن. المدينة تضع العالم كله في أزقتها. وأنا أدور بقدمين باردتين ووجه يترقب المشاهد المبهرة.

كان بيار لوكليرك جنرالاً يحب الشرق. قبل سنوات عديدة قرأت اسمه في كتاب مذكرات لسيدة فرنسية من عائلة أرستقراطية كانت تتحدث عن عشقه للشرق وعن بيته الذي تناولت فيه مرة عشاء مع نساء أخريات. وقرأت أنه بنى بيته في مرسيليا وجاء بحجارته من فلسطين. لم أبحث عن الرجل الذي حكما توفى كنت أسعى لرؤية وطني في بيته. وبعد متاهة طويلة دلني الترامواي إلى حي بعيد بجوار المدينة ووقفت أمام الفيلا الجميلة والمغلقة. كانت مرسيليا خلفي وفلسطين أمامي أحجار عارية وصفراء في مواجهة البحر.

سيمون نصار - باريس simnassar@gmail.com