Saturday 22/11/2014 Issue 452 السبت 29 ,محرم 1436 العدد
22/11/2014

مُعلمّ القاص الواعد!

كتابان، حرصت أن يكونا رفيقي السفر، واخترت أن يحلا في حقيبة سفري الصغيرة الأسبوع الماضي، وحملتهما معي للاستئناس بهما في عروس الشمال مدينة تبوك، والحديث في ناديها الأدبي بأمسية شيقة عن فضاء السرد، والكتابان هما الأول (هاتف) مجموعة قصصية للأستاذ الصديق محمد علوان، والكتاب الثاني (فتنة السرد والنقد) للأستاذ نبيل سليمان، وقبل الولوج إلى هذا العالم الفني الممتع، لا بد من الإشارة إلى ما جاء في ورقتي تلك الليلة عن الفضاء السردي، وبالذات ما جاء عن جنس القصة القصيرة لمرحلة كتابية مبكرة، شكلّ الأستاذ محمد علوان، أحد أهم روادها الكبار الذين يُشار لهم بالبنان، وهو مع (جيله) الذين خلقوا لنا فضاءً سردياً فنياً، أضاء الطريق لجيلٍ أدبي، أتى بعدهم لكون هذا الجنس الأدبي الممتع فناً تراكمياً، لا ينشأ من فراغ ولا يأتي من العدم.

ومما جاء في ورقتي تلك الليلة، قلت: إن معرفتنا بفضاء الفن السردي، تأتي بوصفه بعداً جوهرياً من أبعاد الوجود الإنساني، وسؤالاً يفرض حضوره للكاتب، فيخترق السرد الواقع بتشكُّله الجغرافي، وبمقوماته الثقافية والسياسية والمجتمعية، ليُشكِّل بُعداً مُوازياً لعالم، تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال، وهي بدورها، تشكِّل معياراً لقياس الوعي، والعلاقات الإنسانية، ويصبح الفضاء، مكوناً أساسياً في سرد الخطابات المتجاورة والمتعددة، والسرد يعني الإخبار من صميم الواقع أو من نسج الخيال، أو من كليهما معاً في إطار زماني ومكاني، يتسم بحبكة فنية متقنة، ويغلب عليه الزمن الماضي (فلاش باك) وتكثر الروابط الظرفية والأسلوب الخبري، وقيل إن السرد هو من أكثر أنواع الفنون الأدبية إمتاعاً، وجذباً للمتلقي لما فيه من متعة وتشويق.

تلك المرحلة الموغلة في الذاكرة، كان يُشار إلى أن كتّاب القصة الحديثة، يتواجدون جميعاً في الرياض، وكان يقصد بهم الأساتذة: حسين علي حسين، ومحمد علوان، وجار الله الحميد، وعبد الله السالمي رحمه الله، والأخير كاتب مجموعة (مكعبات الرطوبة) المدهشة وغيرهم، فالقصة القصيرة هذا الجنس الأدبي الأثير الممتع، المراوغ، الميال إلى التكثيف، الوامض في لغته، وزمانه وشخوصه، الحميمي الدافئ في دلالاته، لتشكِّل القصة القصيرة حضوراً مدهشاً في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، وحظيت بطبيعتها كفن أدبي بمكانة ومتابعة، وحظي نتاج ما سُمي حينها بالجيل المؤسس بالمتابعة والقراءة والنقد، وينسب لهذا الجيل ما يمكن قوله، توطين هذا الجنس الأدبي في حضور الشعر الطاغي، وبالذات مع حضور حركة الحداثة الشعرية، وقد نحت في ميلها إلى التجديد فنياً، واستحضار دلالات، وأشكال، وبني نصية، لا تنتمي إلى السائد من الكتابة التقليدية.

تعددّ فضاء القصة في نصوص تلك الحقبة، وتنوعت في انتمائها إلى المدارس والمذاهب السردية المتنوعة، وتراوحت الغالبية بين الواقعية والرمزية، وشكَّلت لغة القصة القصيرة الدلالات المتنوعة، ولكنها في مجملها عكست واقعها الزماني والمكاني، مقتربة من اللغة الشعرية الظاهرة في بعض النصوص الكتابية حيناً، ويمكن اعتبار نصوص الأستاذ محمد علوان القصصية نموذجاً لهذا اللون الكتابي، وتتلّون أحياناً، فنلمح التقنيات الحديثة في نصوص أخرى مماثلة، وتبقى السمة السائدة في خطابات نصوص كتّاب تلك المرحلة، تجسيد فضاء حالات مأزومة، كالضياع، والغربة، والحرمان، والرحيل، والاستلاب، والشتات، والسفر، وصدمة المدينة، والجنون، ورسم صور الفوارق، والهوة المجتمعية الكبيرة، لتشكّل علامات لفضاء النصوص لتلك المرحلة، واقتصرت غالبية نصوص تلك المرحلة، النظر من زاوية ذاتية، يأتي ذلك لطبيعة جنس القصة القصيرة، رغم حضور الفضاء والبيئات المجتمعية لتلك النصوص.

وإذ لا بد من هذا الاستطراد، وفي الذاكرة أسماء مبدعة ومميزة وكثيرة، برعت في كتابة القصة، وتعلمنا منهم الكثير في تلك المرحلة، وقليل منهم ظل على وفائه لهذا الجنس الأدبي الأثير وكتابته، ومنهم الأستاذ الكبير محمد علوان، تحضرني هنا - قصة ظريفة، حدثت لي معه ربما قبل ثلاثة عقود، وهو المعروف بسرعة البديهة وخفة الظل، والذاكرة تحفظ له الكثير من فخاخ سرعة بديهته، وخفة ظل الفنان وعفويته في شخصيته، يحدث هذا خلال اتصالات وتواصلنا المبني على المحبة والمعرفة، وكنت في حينه قد زرته في مكتبه، وكان مشرفاً على الملحق الأدبي بجريدة الرياض مع الصديق الآخر الأستاذ - عبد الكريم العودة، رده الله سالماً ومعافى من غربته المرضية، وهو أيضاً مثل أبي غسان لا يقل ظرفاً وخفة ظل، فأراد علوان أن يقدمني له، وقال:

- هذا (القاص الواعد) أحمد الدويحي!

أصدقكم أني احتشدت في داخلي مع أني فعلاً كاتب واعد، ويبدو أن ردود فعلي ظهرت على وجهي، لكنه بحس الفنان والأستاذ الكبير لم ينس، ليمسح ما علق بنفسي، ويفتح نافذة جديدة للمعرفة، قال لي فيما بعد بروح الكبار بذات الظرف:

- هل ما تزال بعدك واعدا؟

فقلت له بخجلٍ:

- نعم!

وأكمل حكمته بقوله:

- يا صديقي أن تبقى واعداً، وتحملُ وعداً، خير من أن تكون منتهياً، ولا تحملُ شيئاً...

وإذ أحتفي متأخراً هنا - بصدور نص أستاذي أبي غسان، فلا بد من القول إن الفنان الأصيل بموهبته ووفائه لفنه، يستطيع مسايرة كل الأجيال اللاحقة له، ويكون معلماً ونموذجاً لهم، وهذا حتماً ما فعله هذا الرائد الكبير.

رحلة طويلة له مع فن القصة القصيرة، بدأت بمجموعة (الخبز والصمت 1977 م)، وكتب لها مقدمة الروائي العربي الكبير كاتب رواية (قنديل أم هاشم) يحيى حقي رحمه الله، هذه المجموعة المفرطة في البوح والجمال، قرأت نصوصها بلا مبالغة ربما عشرات المرات لدرجة الحفظ، وإذا نلتقط الدلالة اللماحة لعناوين أعماله، حينما كرت السبحة وصدرت مجموعة الحكاية تبدأ هكذا 1983 م، وتتبعها مجموعة دامسة عام 1998، لنقف في محطة (هاتف) حديثة الصدور 2014 م، ليفضي بنا إلى سؤالٍ شائك يحمل إجابته، حول قلة نتاج هذا الكاتب الذي لم يغادر الفن روحه، مقارنة بغيره مع أني أعرف أن في أدرجه، مخطوطات تحوي أعمالاً سردية كثيرة، لم تطبع ومنها كتابة روائية، لنتأكد كيف يرصد هذا الفنان عوالم شخوصه، ويسبغ عليهم بتأنٍ من روحه ورفيع لغته، ونجد على سبيل المثال ذلك في نموذج قصة (هاتف)، وهي القصة التي تحمل اسم المجموعة الأخيرة له، لنلمح التجديد في الرؤية، ونتأمل عمق الدلالة التأويلية، إنها تنتمي إلى عالمين وزمنين ومكانين مختلفين في آن واحد، وكل عالم منها له مفاتيحه ودلالته، فالقصة التي ترنو إلى فعل مستقبلي بالقلم، أمسكت عن ذلك بالهاتف في مواجهة مقبرة، كُتب على بابها الحديدي المغلق، قف.

باختصار: محمد علوان مدهش وحميم ولاذع كإنسان وفنان، في لغته الكتابية وفضائه، بصدقه وحدته وذكائه وأناقته

.

- الرياض