Saturday 22/11/2014 Issue 452 السبت 29 ,محرم 1436 العدد
22/11/2014

محمد بن سعد بن حسين وذكريات جامعية

حينما كنتُ أدْرُسُ في معهد المجمعة العلمي، في القسم التمهيدي والقسم الثانوي من عام 1378هـ إلى نهاية عام 1384هـ، كان محمد بن سعد بن حسين - رحمه الله - مدرساً في معهد الرياض العلمي؛ فلم تتح لي فرصة التتلمذ عليه، ودرّس زملاء لي في معهد الرياض، والتحقوا بكلية اللغة العربية في العام الذي التحقت فيه بها. وسبق أن تتلمذ عليه أجيال قبلي وبعدي.

وحين التحقت مدرساً بمعهد الرياض عام 1393هـ كان محمد بن حسين قد انتقل مدرساً في كلية اللغة العربية؛ فلم يتيسر لي أن أزامله في المعهد. ثم تحولت الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1394هـ - 1974م. وكانت جامعة الأزهر فتحت باب الانتساب في الدراسات العليا للطلاب المصريين والعرب قبل هذا التاريخ بسنوات، تقدم في أثنائها محمد بن حسين للدراسة في قسم الماجستير، شعبة الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، ومنذ ذلك الحين توطدت صلته بعبد السلام سرحان الذي كتب مقدمة كتابه (الأدب الحديث في نجد)، وشرح ألفاظه، وأثنى على مؤلفه ثناءً لا يخلو من مبالغة. وأتيحت له فرصة الابتعاث إلى الأزهر على حساب الجامعة؛ للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه. وقبل سفره بأيام قلائل، التقيتُ به، وكان معه ابنه عبد الحميد شاباً طري العود، وساعدته في إنجاز بعض أمور تتعلق بالسفر؛ فقد كنت - آنذاك - أملك سيارة، ثم رغب إليّ أن نذهب إلى عبد الله بن عبد الكريم المفلح - رحمه الله - وكان من أعز أصدقائه، وأقربهم إلى نفسه ومزاجه، وكان - فيما يبدو - يود أن يودعه قبل سفره، غير أننا لم نجده في منزله الذي بدا لي من منظره أنه قد فرغ حديثاً من بنائه.

كنت آنذاك حصلت على الماجستير من جامعة الأزهر، ولم أتسلم الشهادة بعد، فرغبت إليه إذا وصل إلى القاهرة، واستقر فيها أن يكرم بتسلم شهادتي من كلية اللغة العربية، ويبعثها إليّ مع أحد القادمين من القاهرة، وما أكثرهم في تلك الأيام! وأعطيته عدداً من الصور الشمسية؛ لأن الكلية هناك تطلب ذلك، غير أنه لفرط انشغاله بعد وصوله نسي ما أوصيته به، فضاعت الصور، ولم تصل الشهادة.

وكرم الشيخ الدكتور محمد بن أحمد الصالح ابن بلدتي فتسلمها من الكلية، وبعثها إليّ مع الأخ الدكتور محمد الربيع، بعد أن دفع رسم تسلمها، ومقداره جنيهان، ولا يزال المبلغ عالقاً في ذمتي، ومن حقه أن يطالبني به، ولكن بسعر الجنيه اليوم. غاب عنا محمد بن سعد طوال مدة بعثته، وعاد إلى الكلية بعد أن تسلح بالدكتوراه، ولم ألقه، فقد أبعدتُ عن الكلية مع زملاء لي طُلَعَة؛ لأننا كنا نطالب بتطوير الكلية، وأن يكون للسعوديين دور في هذا التطوير، ويبدو أن العميد - آنذاك - ضاق ذرعاً بما كنا نطالب به ونتحدث فيه. أسند إليّ عمل لا أرضاه، ولم تطب له نفسي، فلم يكن لي فيه أثر ولا نجاح، كنت متعلقاً بالكتاب منذ صغري،شغلت بإعداد بحث الدكتوراه ولم ألق محمد بن حسين ولم يلقني طوال هذه المدة، كنت في الصباح أزاول عملاً إداريّاً في المكتب، وفي المساء أعكف على البحث حتى أذان الفجر، وحصلت على الدكتوراه، وبدلاً من تعييني في الكلية التي تخرجت فيها جامعيًّا، ومنحتني درجة الدكتوراه بامتياز وبدرجة الشرف الأولى، والتوصية بطباعة الرسالة، عينت في معهد تعليم اللغة العربية، وهو معنيٌّ بتعليمها للناطقين بغيرها. فلما كان عام 1406هـ أشعرنا بأن الكلية بحاجة إلى مدرسين، تعينهم على ملاكها، ولكنها وضعت شرطاً لذلك، وهو أن نمارس تجربة التدريس فصلاً كاملاً، ويتحقق النقل أو التعيين إلى الكلية بالنجاح في هذا الاختبار ، فقابلت الدكتور ابن حسين، وكان قد عين رئيساً لقسم الأدب، وأسند إليّ تدريس الأدب الأندلسي، وحققت في تدريس المادة نجاحاً أهلني للالتحاق بالكلية عام 1407هـ. استمررتُ في عملي الإداري في المعهد، والتدريس في الكلية، ومحمد بن حسين لا يزال رئيساً لقسم الأدب.

في هذه الأثناء، تقدم للترقية إلى درجة أستاذ بثلاثة كتب، منها كتاب عن كلثوم بن عمرو التغلبي الشاعر الكاتب في العصر العباسي المعروف بالَعتّابي، فقلت له - ونحن نقف أمام أحد الفصول في مقر الكلية بالناصرية - : هل اطلعت على شعره الذي جمعه ناصر حلاوي، ونشره عام 1969م في العدد، 2، 3 من مجلة المربد التي تصدرها كلية الآداب بجامعة البصرة، فقال: لا، وأعجبتني فيه هذه الصراحة، وأعذره في عدم اطلاعه على شعر مجموع في العراق، منشور في مجلة لا تصل إلينا، ومتى؟ في عام 1969م، وللفائدة استدرك هلال ناجي - رحمه الله - على جمع حلاوي اثنتين وخمسين مقطوعة، واستدرك زكي ذاكر العاني على شعره المجموع خمسة وعشرين نصًّا، نشرها في مجلة المورد، واستدرك د. نوري حمودي القبسي ستة عشر نصًّا، نشرها في مجلة المجمع العلمي العراقي، وربما يكون بعض هذه النصوص مكرراً، وأصدر عنه د. أحمد محمد النجار كتابه العتابي: أديب تغلب في العصر العباسي، نشرته دار الفكر العربي بالقاهرة عام 1975م، في 132 صفحة.

والمؤلف ابن حسين مستطيع بغيره، وليس في مكنته أن ينقر وينقب في نوادر المنشورات، ومثله طه حسين فمصادره في جميع مؤلفاته قليلة، لا تقاس بعدد ما أصدره من كتب؛ لأنه يعتمد في بنائها وتحشيتها على تداعي خواطره، واسترسال أفكاره، وانثيال معانيه، يقلب المعنى على أكثر من وجه، ويعرض الفكرة أو الخاطرة تخطر له في معارض متنوعة، مستعيناً بأسلوب التكرار وبمهارة السرد.

أمضى الدكتور ابن حسين سنوات في رئاسة قسم الأدب، وكانت بيننا دورية لم تستمر طويلاً قبل أن ينتقل إلى حي النخيل، وقبل أن أنتقل إلى حي الازدهار، وكان من ديدنه أن يأتي إلى الدورية متأخراً، فهو آخر من يأتي، وعزوت ذلك إلى أنه لا يود أن يفرط في وقت يستطيع أن يستغله في الكتابة والتأليف؛ فقد كان - آنذاك - في قمة نشاطه وعطائه، مقالات في الصحف، وبرامج في الإذاعة، ومؤلفات تخرجها المطابع.

في إحدى السنوات زار الدكتور كمال بشر معهد تعليم اللغة العربية، وألقى محاضرة ارتجالية - كعادته - عن تاريخ اللغة العربية، وبعض خصائصها، وبعض ما تمتاز به عن غيرها من اللغات، وكنت المقدم للمحاضر والمحاضرة، وأقام عبد الله الحامد مدير المعهد - آنذاك - مأدبة غداء في منزله للدكتور الزائر، دعا إليها عدداً من الأساتذة والمهتمين بالشأن الثقافي، وكان من المدعوين محمد بن حسين، وحسن ظاظا، ومن عادة ظاظا إذا طاب له المجلس، وأنس بمن فيه أن يخرج من جيبه وريقات، بعضها كاد أن يبلى، ويتلو منها مقطعات من الشعر الشعبي الفكه الذي يسميه إخواتنا في مصر الشعر الحلمنتيشي، وكان معجباً بشخصية البهلول، ويروي بعض طرائفه، ويرى أنه من أعقل العقلاء، أو من عقلاء المجانين، كابن الجصاص الجوهري الثري الذي ينسب إلى التغفيل، وليس بمغفل.

أهدى محمد بن حسين كمال بشر ثلاثة من أحدث كتبه، ولما ركب معي لإيصاله إلى فندق الشرق الذي ينزل فيه، أراني الكتب، وكان من بينها - إن لم أنس - كتابه عن المدائح النبوية، وهو كتاب لاحظت جدته، ربما لم يمض على طباعته سوى أيام أو شهور. وكان كمال بشر يشغل - حينذاك - منصب نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولمستُ من الإهداء رغبته في أن يعين عضواً في مجمع اللغة.

من مظاهر شخصية محمد بن حسين الأناة والهدوء فما رأيته مندفعاً ولا منفعلاً، يلقاك بوجه سمح، ويقابلك دون تكلف، لا رياء فيه ولا مبالغة، ترتاح لمقدمه ومجالسته، لا أعرف أنه ضرَّ أحداً أو سعى في مضرة أحد.

كان الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا رئيساً لقسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي في الكلية في أثناء رئاسة الدكتور محمد بن سعد بن حسين قسم الأدب، والباشا كانت له الكلمة الأولى في الكلية، وربما عد في تلك الأيام الرجل الأول في الكلية كما حدثني بعضهم، وهو الذي سعى إلى فصل البلاغة والنقد عن قسم الأدب، فكان قسماً جديداً رأسه مدة من الزمن. ولم يكن محمد بن حسين على وفاق معه - كما حدثني - وذكر لي أن الباشا كان شديداً في نقد خطط الرسائل التي يعرضها قسم الأدب على مجلس الكلية، والاثنان عضوان في المجلس بحكم الرئاسة للقسم، وفي إحدى المرات عرضت خطة رسالة لأحد طلاب قسم الأدب، فقال الباشا: أشهد أن هذه الخطة لم تمر على نظر عالم!! فغضب ابن حسين غضبة مضرية - ومن حقه أن يغضب - واحتج وخرج من المجلس، ويبس الثرى تماماً بينه وبين الباشا، وبقي ما قاله في المجلس أثراً بالغاً في نفسه حتى مرضه الذي توفي فيه، وحاولت أكثر من مرة أن يسامحه، فقد مضى على اللذعة زمن طويل، ولكن يبدو أنها أحدثت جُرحاً نافذاً لا يندمل.

توثقت علاقتي به أكثر من ذي قبل، واشتركنا سويًّا في تقديم عدة حلقات من برنامج (قضايا وآراء) الإذاعي المحتجب الذي كان يعده ويشرف عليه عبد الملك عبد الرحيم - رحمه الله - وكنت أصحبه معي في السيارة من منزله في حي النخيل إلى الإذاعة، ثم نعود إلى منزله بعد التسجيل، كنا أحياناً نسجل حلقتين استغلالاً للوقت. وأذكر أنه أهداني - في تلك الأيام - نسخة من كتابه (البحث الأدبي)، وهو كتيب صغير اعتمد في تأليفه على تجربته الشخصية في التأليف، والإشراف على بحوث الطلاب ورسائلهم. ولصغره قرأته في ليلة واحدة.

في السنة الخامسة في معهد المجمعة العلمي كان يدرسنا الأدب محمد بن علي العرفج - حفظه الله - كان ذلك في عام 1384هـ - 1964م، وكان الكتاب المقرر (الأدب العربي وتاريخه) لعبد العزيز بكر، وكنت أقرأ إلى جانب الكتاب المقرر في تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات الذي اقتنيته عام 1383هـ - 1963م، وكانت سلسلة شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي لم تخرج بعد. وقال لي في أحد لقاءاتنا في إذاعة الرياض: إنك كنت تسألني أسئلة في الأدب كثيرة، لا أملك الجواب عنها، فإذا ذهبت إلى الرياض سألت عنها محمد بن سعد بن حسين. والشيخ محمد بن علي العرفج من أهالي أشيقر، وهو خريج كلية الشريعة عام 1383هـ، ولم تكن وسيلة اتصال بين المجمعة والرياض إلا السفر، أو الرسائل، أو البرقية التي تقتصر على الأشياء المهمة العاجلة، وكان الطريق بين المدينتين ترابيًّا تقطعه السيارة في ست أو سبع ساعات.

بعد أن ترجل من رئاسة قسم الأدب استمر أستاذاً في الكلية، فأتيح لي أن أتصل به كثيراً في الكلية بين المحاضرات، وكانت استراحة الأساتذة في القسم المكان المفضل لديه، فقد كان اجتماعيًّا بطبعه، ليس كزا ولا منغلق النفس، يهتز للطرفة ويشارك فيها، سعدت كثيراً بالحديث معه، وتبادل التعليقات الطريفة، حضرت أكثر من مناسبة في منزله، وكنت معجباً بتنظيم مكتبته التي يصادفك جزء منها حين تدلف إلى مجلس الرجال، وقسم منها وضعه في غرفة مستقلة في الملاحق الخارجية على يمين الداخل من الباب الخارجي لدارته، وقسم ثالث في داخل المنزل، لم أره مع حرصي على أن أطلع على محتوياته. وأعتقد أن مكتبته تعد من أكبر المكتبات الشخصية على مستوى المملكة؛ لأنه اجتهد في جمعها خلال سبعين عاماً أو أكثر، والذين عاشوا في مصر أو درسوا فيها مثله أتيح لهم من اقتناء نوادر الكتب ما لم يتح لغيرهم؛ فمصر أم الكتاب.

لا أنسى كرمه - بإهدائي نسخة من كتاب (ابن حسين بين التراث والمعاصرة) للأستاذ الدكتور طلعت صبح السيد في 14-7-1422هـ، وهوكتاب ضخم جدًّا ، تناول حياته ومسيرته الأدبية وآثاره وما كتب عنه، ونسخة من كتاب (صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار - لابن بليهد، واشتركتُ معه في مناقشة رسالتي ماجستير، وناقشت رسالة ماجستير عن شعره في جامعة القصيم عام 1429هـ.

لقد صوحت استراحة الأساتذة في الكلية بعد رحيله، وخلت من تلك الشخصية الجذابة التي تجمع عدداً من محبيه في ندوته المصغرة، وكان من عادته إذا أراد الذهاب إلى دورة المياه، يقول: سأذهب إلى إسرائيل. لقد كان يملك شخصية طريفة حقًّا، رحمه الله وغفر له. والمجال مفتوح أمام طلاب الدراسات العليا، لإعداد أطروحاتهم عنه وعن أدبه وإبداعه.

- الرياض