Saturday 24/05/2014 Issue 439 السبت 25 ,رجب 1435 العدد
24/05/2014

(مَنهجيَّاتٌ) في (التحليل البلاغي)(3)

لا يزال الحديث مستمراً عن أبرز الأسس المنهجية التي ينبغي أن يكون الانطلاق منها في التحليل البلاغي إذا ما أراد الناقد أن يُقدِّم للقارئ تحليلاً بلاغياً متميزاً، يمكن من خلاله أن يكشف عن القيم الجمالية والدلالية للنصِّ الأدبي دون الدخول في متاهات واستطرادات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل ربما تسبَّبت في إرباك المتلقي وظلم المبدع والجور على خطابه الإبداعي، وما لم يعتمد الناقد وقارئ النص بهذه المنهجيات وينطلق منها في تحليله فإنَّه لن يتمكَّن من استثمار الدرس البلاغي الثري في ممارسته النقدية، بل يسهم في تعطيله، ولن يتمكن من تذوق النص الأدبي وإدراك جمالياته، فضلا عن إيصال ذلك إلى المتلقي.

وقد تضمَّن الجزآن الماضيان بعض هذه الآليات المنهجية التي ذكرها الباحث في بحثه المشار إليه سابقا، وفي هذا الجزء سأذكر ما بقي منها؛ أما سابعها فهي (سدُّ ذريعة التدريس التقعيدي للبلاغة) وهي آليةٌ في غاية الأهمية، بل هي مفصليةٌ لاستثمار البلاغة في تحليل النصوص الأدبية؛ لأنَّ عدم الالتزام بهذه المنهجية سيفضي حتماً إلى قتل البلاغة وتجميدها، وهو ما نراه اليوم حاصلاً للأسف!

إنَّ من يتأمل في منهج تدريس البلاغة العربية سواء على مستوى التعليم العام أو الجامعي أو حتى العالي سيلحظ كثيراً من السلبيات المتحققة جرَّاء تدريسها بوصفها قواعد منفصلة عن بعضها البعض، وتقديمها إلى الطلاب والناشئة بشكل أبواب مستقلة عن أصولها ومقاصدها، وهو ما يؤدي إلى قتل هذا الفن الجميل (البلاغة)، ويفتح المجال أمام المنتقدين الذين يؤكدون في كلِّ مناسبة على نفاد أدوارها، وانتهاء صلاحيتها، والضرورة إلى نبذها واستبدالها بالمناهج الجديدة، وما ذاك إلا حين رأوا طريقة تدريسها، وكيفية استثمارها في التحليل الأدبي.

ومن أهم القضايا التي أسهمت في تفشي هذه النظرة -كما يرى العروي- إيراد الشواهد والأمثلة والنماذج مقطوعةً عن سياقها، ومجتزأةً عن نصِّها الكامل، وبذلك يضيع المعنى الكلي للخطاب، ومعلومٌ أنَّ المناهج الجديدة تهتمُّ كثيراً بوحدة النص وكليته، والنظر إليه عند التحليل على أنه بنيةٌ متكاملةٌ لا تتجزأ، وهو ما ستعجز البلاغة عن إدراكه إذا استمرَّت هذه الطريقة في تدريسها واستثمارها.

ثامن هذه الآليات يؤكِّد على (إنهاء أدواء التداخل والتوارد والاضطراب المفاهيمي والمصطلحي)، واعتبار هذا الإنهاء مقدِّمةً لتجديد البلاغة العربية، والحقُّ أنَّ هذا النوع من التداخل لا يقتصر على البلاغة فحسب، بل ينسحب على كثير من الفنون الأدبية والعلوم الإنسانية، وسبق أن أشرتُ في مقالات سابقة إلى شيء من ذلك في مجال النقد الأدبي.

ولهذا يؤكِّد العروي أنَّ امتناع تحصيل أيِّ علم سببه في المقام الأول تداخل مصطلحاته واضطراب دلالاته، وعند التأمُّل في الدرس البلاغي ومصطلحاته يمكن أن تلحظ مستويين في أزمة علاقة المصطلح بالمفهوم؛ الأول: تعدُّد المصطلح للمفهوم الواحد، والثاني: تعدُّد المفهومات للمصطلح الواحد، وإذا كان الاصطلاحيون قد اتفقوا على أنَّ المصطلح لا بُدَّ أن يكون بدلالة واحدة واضحة في داخل التخصص الواحد فإنَّ البحث البلاغي لم يحترم ذلك، ولم يتمكن من المحافظة على مفهوم واحد واضح لكلِّ مصطلح، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ إذ يؤدِّي إلى فساد في الدراسة والتحليل والاستنتاج، بل يفسد العملية التواصلية جميعها.

وللتمثيل على هذه القضية يورد العروي نماذج من التاريخ المصطلحي للبلاغة يدلل على وجودها وانتشارها، فمن تعدُّد المصطلحات للمفهوم الواحد مفهوم (تجاهل العارف)، فقد صار له أكثر من مصطلح؛ منها: (سوق المعلوم مساق غيره)،

و(إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد)، و(إرخاء العنان)، و(الإعنات)، وكذا الأمر في (الجناس)، فقد سمي (التعطُّف)، و(المطابقة)، ومثله (الالتفات) الذي وردت له في البحث البلاغي كثيرٌ من المصطلحات التي تشترك في مفهومه؛ مثل: (الانصراف)، (العدول)، (الصرف)، (خطاب التلون)، (مخالفة مقتضى الظاهر)، (شجاعة العربية).

أما المستوى الثاني فيمكن التمثيل عليه بمصطلح (التطابق)، فقد صار يُفهم منه التضاد والتقابل بين المفردات، ومفهوم ما يشترك في لفظة واحدة بعينها، مع أنَّ هذا الأخير هو مفهوم الجناس، ومثله مصطلح (التضمين) الذي أصبح له مفهومات عدة، بعضها خارج عن البلاغة أصلا، أتركها لمن يراجع مفهوم هذا المصطلح عند البلاغيين ويلحظ الفروق الكبيرة بينها.

أما تاسع هذه الآليات فتتصل بما قبلها من جهة ما، حيث ترتكز على (الاحتكام إلى المناسبة المقامية في الاصطلاح البلاغي)، وهذه الآلية خاصَّةٌ بالقرآن الكريم، حيث ينبغي الاعتماد عليها وملاحظتها عند تحليل الخطاب القرآني بشكل خاص، بمعنى أن ينتبه المحلل الذي يتعامل مع القرآن الكريم إلى مناسبة اسم المصطلح لجلالة ا لقرآن وعظمته، وأن يكون لائقاً به، وألا يُقبل إذا كان دون ذلك مهما بلغت فيه شروط الاصطلاح الأخرى.

وهنا تحضر كثيرٌ من القضايا الخلافية في الدرس البلاغي من ناحية المصطلح، حيث اعترض (الزركشي) على من وصف فواصل القرآن بـ(السجع)، واستدرك به (ابن المنير) على (الزمخشري) في استعمال مصطلح (التخييل) في حقِّ كلام الله، وردَّ ابن النقيب مصطلح (الجهامة) في السياق نفسه، ولعله لأجل هذا لم يحب السكاكي مصطلح (تجاهل العارف)، وسماه (سوق العلوم مساق غيره)، وأورد له مثالاً من القرآن الكريم.

إنَّ النظر إلى هذه الآلية والاعتماد عليها في التحليل البلاغي لنصوص الذكر الحكيم في غاية الأهمية؛ إذ ينبغي اختيار المصطلح المناسب عند النظر في أرقى كلام وأشرفه، والتخلي عن المصطلحات التي توحي بنوع من سوء الأدب في التعامل مع القرآن الكريم، وليست البلاغة بعاجزة عن هذا الاستبدال، وهي التي ابتليت بتعدُّد المصطلحات للمفهوم الواحد في كثير من أبوباها وفصولها.

أما الآلية المنهجية العاشرة والأخيرة فهي (استصحاب الأصل الدلالي لمعنى البلاغة)، والمقصود بها -كما يوضح العروي- أن نسأل أنفسنا: إذا كان معنى (البلاغة) الوصول وبلوغ الشيء، فما هو هذا الشيء الذي نمتطي البلاغة للوصول إليه؟ ويكشف عن أنَّ الجواب هنا ثلاثيُّ الأبعاد؛ الأول: بلوغ الأديب أن يعبِّر عمَّا في داخله، الثاني: بلوغ المتلقي أن يدرك ما بداخل الأديب من خلال قراءته للنص، والثالث: بلوغ النص أن يُبلغ للمتلقي مكنون الأديب من خلال وسائله الإيقاعية والتصويرية والأسلوبية بما فيها الأوجه البلاغية.

إنَّ كلَّ ما من شأنه الإسهام في بلوغ هذه الأبعاد الثلاثة هو داخلٌ في مسمَّى البلاغة ومشمولاتها، سواء أكان ينتمي إلى التراث البلاغي القديم أو المناهج الحديثة، وإذا أردنا منهجاً بلاغياً متميزاً في تحليل النصوص الأدبية وقادراً على استثمار الفنون البلاغية في استكناه القيم الجمالية والدلالية التي يحفل بها النصُّ فلا بُدَّ من استصحاب هذا الأصل الدلالي لمفهوم البلاغة.

***

إنَّ هذه الآليات والأسس المنهجية تحاول أن تفتح حواراً جاداً -كما يؤكِّد العروي- حول واقع الدراسات البلاغية العربية وآفاقها، حواراً لا يبخس العطاء التاريخي والجمالي لجهود العلماء والبلاغيين حقه، كما لا يستهين بالتطور المعرفي والمنهجي الذي لحق الأطر النظرية والتحليلية للدراسات النقدية المعاصرة، كلُّ ذلك بغية أن تظلَّ البلاغة وصلةً وذريعةً إلى الكشف عن جماليات الخطاب الأدبي بشكل عامّ والخطاب القرآني بشكل خاص، وما أحوجنا إلى إعادة النظر في درسنا البلاغي وتصفيته وتنقيته من الشوائب، وإعادة النظر في طريقة تعلمه وتعليمه إذا أردنا فعلاً أن نستثمر تراثنا البلاغي خير استثمار في إدراك جماليات النصوص والكشف عن ثرائها الدلالي.

- الرياض omar1401@gmail.com